يحاول البعض في الغرب تصوير السياسة الخارجية الروسية الحالية بأنها سياسة عدوانية ومضرة للعديد من الدول وخاصة جيرانها ومن يتعاملون معها، ووصل الأمر بعضو الكونغرس الأميركي جون ماكين أحد صقور الحزب الجمهوري أن وصف الرئيس الروسي بوتين بأنه شخص خطر على السلام والأمن الدوليين، لماذا ؟، يقول ماكين : «لأنه يرفض نشر الدرع الصاروخية الأميركية في شرق أوروبا، ولأنه يدعم إيران في برنامجها النووي، ولهذا فهو خطر على السلام الدولي.

أما ما تفعله السياسة الأميركية الآن بسياستها الخارجية التي راح ضحيتها خلال أربعة أعوام فقط أكثر من مليون قتيل وملايين الجرحى وملايين أخرى من اللاجئين والمشردين في العالم فإنها سياسة ليست عدوانية وليست خطيرة على الأمن والسلام الدوليين، هذا هو المنطق الأميركي الذي على العالم كله أن يؤمن به ( شاء أم لم يشأ)، ولكن روسيا ليست الدولة التي تساق كما يريدون، وليست الدولة التي تخاف من أميركا أو غيرها.

اتهام واشنطن والغرب للسياسة الروسية بالعدوانية نابع في الأساس من النزعة الاستعمارية الغربية القديمة التي يرى أصحابها أن حقوقهم ومصالحهم تشمل كل أرجاء العالم وأنهم الأسياد المتحضرون وباقي العالم هم العبيد المتخلفون.

هذه النزعة الاستعمارية مغروسة للنخاع في كيان السياسة الغربية ولا تظهر إلا عندما يظهر أمامهم من هو أقوى منهم ومن يعلمون أنه من الصعب عليهم قهره أو إجباره على الخضوع لهم، وروسيا الآن تبدو أمامهم كذلك، فهي الدولة الغنية بمواردها الطبيعية الهائلة وطاقاتها وخبراتها العلمية المتفوقة في العديد من المجالات، وهي الدولة القوية بترسانتها العسكرية التي تعادل كافة ترسانات السلاح الأوروبية مجتمعة ولا تقل كثيرا عن الترسانة الأميركية بل تتفوق عليها في بعض المجالات العسكرية.

كما أنها الدولة النووية الكبرى، كل هذا مع النظام الحاكم القوي في الكريملين يعني في النهاية أن أطماع ومصالح الهيمنة الغربية على العالم أصبحت مهددة بالخطر، وخاصة بعد أن فشلت كل المحاولات الغربية على مدى الأعوام السبعة الماضية في إثناء روسيا عن سياساتها الجديدة وإخضاعها وتطويعها للمصالح الغربية، كما فشلت المحاولات في إغراء روسيا بالتعاون مع الغرب ضد مصالح دول وشعوب العالم الفقيرة والمقهورة والمهددة دائما بالضغوط والتهديدات الغربية.

لقد أثبتت أزمة الطاقة التي يمر بها العالم منذ أربعة أعوام مضت أن روسيا أصبحت تمتلك أكبر ورقة ضغط يمكن أن تلعب بها بحرية كبيرة وتمارس بها ما يحلو لها من ضغوط على الكثير من دول العالم بما فيها دول أوروبا الغربية والشرقية، ولكن روسيا لم تفعل ذلك، بل على العكس تماما ذهبت تنادي بديمقراطية الطاقة، أي أن يصبح من حق جميع دول العالم أن تحصل على ما تريده من مصادر الطاقة اللازمة لها.

وكانت روسيا حسنة النية تماما في طرحها هذا، بدليل أنها اقترحت تأسيس مؤسسات دولية أشبه بالبنوك الدولية التي تتولى توزيع مصادر الطاقة على شعوب العالم كل وفق حاجته لها وتضمن في نفس الوقت حقوق المنتجين، بمعني آخر دعت روسيا لإلغاء الاحتكارات وعدم استخدام مصادر الطاقة كوسائل ضغط على الشعوب والدول، وهذا في الواقع ما جعلهم في الغرب يصفون السياسة الروسية بأنها عدوانية، فهي عدوانية على مصالحهم الخاصة وعدوانية ضد هيمنتهم على ثروات الشعوب الأخرى واستغلالها حتى ضد مصالح هذه الشعوب نفسها.

لقد سبق أن وضع نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني روسيا ضمن دول محور الشر، لا لشيء إلا لأنها تدافع عن مصالحها هي وترفض زرع قوات حلف الناتو وأسلحته والدرع لصاروخية الأميركية على حدودها، لهذا فهي في نظرهم دولة شريرة ورئيسها خطر، وربما قريبا نسمعهم يصفون بوتين بالإرهابي.

خاصة وأنه مازال يرفض التفسير الأميركي لمفهوم الإرهاب ويعتبر الكثير من الجماعات وتنظيمات المقاومة التي تعتبرها واشنطن إرهابية يعتبرها بوتين منظمات مقاومة شرعية وكفاح من أجل الوطن والأرض ومصالح الشعوب، وعندما تغير إسرائيل بطائراتها على سوريا لا تعترض واشنطن بل تعتبر أنها تدافع عن نفسها، وعندما تعطي روسيا لسوريا سلاحا دفاعيا وليس هجوميا يعتبرون أنها تمارس سياسة عدوانية.

وعندما يحشدون كل جهودهم لتوقيع أشد العقوبات على إيران استعدادا لتنفيذ مخططاتهم لتوجيه ضربة عسكرية لها وهم يعلمون مدى خطورة هذه الضربة ليس فقط على إيران بل على المستوى الإقليمي والدولي أيضا، وتقف روسيا للتصدي لهذه السياسة الجنونية يتهمونها بأن سياستها عدوانية وتدعم الإرهاب.

لقد أثبتت قمة روسيا والاتحاد الأوروبي التي انعقدت في البرتغال الأسبوع الماضي أن النزعة الاستعمارية الراسخة في الوجدان الغربي مازالت توجه سياسة الغرب تجاه باقي شعوب الأرض، هذه القمة التي يمكن وصفها بالفاشلة لأنها لم تأت بالنتائج التي كانوا يريدونها لها في الغرب أثبتت أن واشنطن مازالت تدير وتوجه السياسة الأوروبية كيفما تشاء، وقد قالها الرئيس بوتين لهم صراحة في البرتغال «إنه من المؤسف أن تكون روسيا حريصة على مصالح أوروبا أكثر من الأوروبيين أنفسهم ».

وكان بوتين قد سبق أن قالها لهم صراحة أيضا في مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ في فبراير الماضي «إذا أردتم التعامل مع روسيا فعليكم أولا أن تملكوا إرادة قراركم لا أن تنصاعوا لإرادات وقرارات تأتيكم عبر المحيط»، إنها اتهامات مباشرة وصريحة وأيضا مهينة للأوربيين، ولكنهم للأسف لا يستطيعون إنكارها، فهم يعلمون جيدا أنهم في أشد الحاجة لروسيا ولإمداداتها من الطاقة لهم ويحتاجون أيضا لقوتها واستقرارها باعتبارها جزءا لا يتجزأ من أوروبا وأمنها.

ومع هذا يصرون على التعامل معها بنزعتهم الاستعمارية المغروسة في وجدانهم، يريدون منها كل شيء ويرفضون إعطاءها أي شيء ولا حتى الأمن والاستقرار، إنهم يعلمون أن لا حيلة لهم في كون روسيا دولة غنية بمواردها الطبيعية، لكنهم لا يريدونها قوية بل ضعيفة بالدرجة التي يسهل معها الحصول على ثرواتها وفق شروطهم هم وليس وفق شروط روسيا ولا حتى بالتفاهم معها.

بروز روسيا على الساحة الدولية بإمكانياتها الطبيعية الهائلة وثروتها العلمية الكبيرة وقوتها العسكرية الجبارة ليس فقط ضد مصالح الغرب وطموحاته في الهيمنة على العالم بل أيضا ضد النزعة الاستعمارية المغروسة في الوجدان الغربي، هذه النزعة التي لم تعرفها روسيا في تاريخها النقي من سوابق الاستعمار البغيض ولا مكان لها في طموحاتها وتطلعاتها المستقبلية رغم ما يشيعونه عنها زورا بأن لديها أحلاماً وطموحات إمبراطورية.

جامعة سيبيريا