صادق مجلس الوزراء العراقي في السابع والعشرين من فبراير المنصرم على مسودة قانون النفط والغاز الجديد، ويعتبر هذا القانون في حالة إقراره من قبل مجلس النواب أحد أخطر وثيقتين صدرتا في العراق منذ احتلاله في التاسع من أبريل من عام 2003. أما الوثيقة الأخرى، فهي الدستور الدائم الذي أُصدر عام 2005 والذي أسس من خلال بعض بنوده شرعية بعض المواد المثيرة للقلق في القانون النفطي الجديد.
لا شك أن مجلس الوزراء كسلطة تنفيذية قد انبثق كأحد السلطات الثلاث التي تشكل الحكومة العراقية عن طريق عملية انتخابية في ظروف ليست هي الأمثل، بدليل أن العملية السياسية لم تستطع أن تزيل الاحتقانات والخلافات التي كانت قائمة فحسب.
وإنما دفعتها إلى المزيد من التأزم والانحدار نحو نقطة اللاعودة، ومن المتوقع أن تشهد الساحة العراقية في المستقبل القريب أحداثاً هامة تلعب دوراً كبيراً في رسم مستقبل البلد وسوف يلعب القانون النفطي الجديد دوراً سلبياً في ذلك.
إن الخراب الذي حل بالعراق نتيجة السياسات الهوجاء للنظام السابق والخراب المضاف الذي لحق به منذ احتلاله يتطلب انتهاج سياسات تشجع الاستثمار في الاقتصاد المدمر لجلب رؤوس الأموال من الخارج للإسراع بالنهوض به.
ولا شك أن أهدافاً كهذه تنعكس بوضوح على طبيعة التخطيط الاقتصادي، فليس أمام واضع هذه الخطط سوى إقرار تشريعات فيها قدر من المرونة تُمنح فيها التسهيلات للمستثمر وتقدم مختلف الإغراءات له، ولكن ذلك لا بد أن يخضع للثوابت الوطنية التي تمنح العراق اليد العليا في التصرف بثرواته ولا تحرم المستثمر من حقوقه في الربح.
إن للعراق سجلا طويلا حافلا من النزاعات مع شركات النفط الأجنبية كانت الحركة العمالية سباقة في رفضها وتصديها لمنظومة العلاقات المجحفة مع هذه الشركات، فقد اندلع أول إضراب لعمال النفط في كركوك عام 1936 حقق فيه المضربون بعض مطالبهم،
واندلع إضراب آخر تعَمدت فيه الحركة العمالية العراقية بالدم في يوليو عام 1946 عرف بإضراب كاوورباغي لأن القيادات العمالية كانت تجتمع في الحدائق التي تحمل هذا الاسم في مدينة كركوك حيث كانت الكلمات تلقى باللغات العربية والكردية والتركمانية والكلدو آشورية والأرمينية.
كان للعمال حينها 14 مطلباً من ضمنها تأسيس تنظيم نقابي لعمال النفط، إلا أن هذه المطالب قوبلت بقمع دموي من قبل حكومة أرشد العمري حيث استشهد 16 عاملاً وجرح ما يزيد على الثلاثين.
وأعقب ذلك إضرابات عديدة أخرى منها إضراب (كي ثري) في عام 1948، والمسيرة الكبرى لعمال النفط في مدينة حديثة، عام 1953 سيراً على الأقدام متوجهين صوب العاصمة بغداد، لم يستطع عدد كبير منهم إكمالها بسبب الإرهاق في حين واصل آخرون سيرهم حتى النهاية.
وهاهم عمال النفط يتصدرون من جديد الصفوف المناهضة لقانون النفط الجديد، فقد دخلوا في مواجهات تصاعدية مع السلطات ابتدأها عمال النفط في البصرة في يوليو المنصرم وكان آخرها الدعوة إلى العصيان المدني في الثاني والعشرين من الشهر الجاري في وسط العاصمة بغداد.
إلا أن أبرز إنجاز تحقق للعراقيين في مجال تحرير ثروتهم النفطية هو صدور القانون رقم 80 لسنة 1961 والذي استرجع العراق بموجبه حقوقه في استثمار النفط في 99% من أراضيه وليستعيد ما تبقى منها مطلع سبعينيات القرن المنصرم. فقد كان مطلب جميع القوى السياسية في العراق دون استثناء، توسيع مساحة الإرادة العراقية في صناعة القرار النفطي وانتزاع حقوقه من شركات النفط الأجنبية.
تناول عدد غير قليل من المختصين مناقشة الجوانب الفنية الواردة في قانون النفط والغاز الجديد، وكان هنالك شبه إجماع على أنه خطوة كبيرة إلى الوراء بالنسبة للعراق في المجالين السياسي والاقتصادي،
فهو عودة بالعلاقات النفطية مع شركات النفط الأجنبية إلى أربعينيات القرن المنصرم الذي لم تكن حكومات العهد الملكي نفسها راضية بما للعراق من حقوق في ظل العلاقات مع شركات النفط آنذاك. ومع ذلك فإن من المفيد أن نبدي الملاحظات النقدية التالية حول هذا القانون بمناسبة عرضه على المجلس النيابي:
1. يعتبر تشريع هذا القانون خطوة كبيرة نحو خصخصة القطاع النفطي في العراق الذي كان يدار من قبل القطاع العام طيلة عمر الدولة العراقية وذلك لأهميته القصوى، فإيرادات البلد من النفط تغطي ما يزيد على 90 % من الميزانية السنوية.
2. يُرسي هذا القانون علاقات تجارية نفطية ليست مألوفة فالعقود المقترح منحها للشركات الأجنبية طويلة الأمد مما يطمئن الشركات على مستقبلها ويحرم العراق من فرص الحصول على عروض أفضل.
3. يحتوي القانون على تناقضات خطيرة، ففي الوقت الذي تنص المادة 111 من الدستور الدائم على أن النفط ملك الشعب، وتنص المادة الأولى من القانون الجديد نفسه على أن ملكية النفط والغاز تعود لكل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات،
تسمح العبارات الملتبسة التي صيغت بها بعض المواد سواء في الدستور أو في القانون الجديد بتفسيرات أخرى مفادها أن للأقاليم صلاحية التفاوض وتوقيع العقود مع الأطراف الأخرى وإرسالها إلى المجلس الاتحادي الأعلى الذي وفق هذا القانون سيشكل على أسس المحاصصة.
وغني عن البيان ما لهذا من إضعاف لموقف المفاوض العراقي وما قد تثيره صلاحيات كهذه من خلافات بين الأقاليم حول حقوق التصرف في حقول نفطية تمتد تحت أكثر من إقليم. وما نشهده هذه الأيام من تراشق بالتهم بين إقليم كردستان ووزارة النفط على خلفية توقيع الإقليم عقوداً مع شركات نفطية اعتبرتها الوزارة غير قانونية هو أحد إفرازات هذه الالتباسات.
4. ورد في المادة السادسة من القانون بأن صلاحيات شركة النفط الوطنية العراقية لا تتعدى إدارة وتشغيل حقول الإنتاج الحالية والعمل على تطوير الحقول المكتشفة أما فيما يتعلق بحق الاستكشاف والتنقيب فإن على الشركة التقدم كباقي الشركات الأجنبية بطلب الحصول على تراخيص التنقيب و الإنتاج في مناطق جديدة على أسس تنافسية.
وهذه في الحقيقة إعاقة لقدرات العراق على التعامل مع أهم ثرواته، فالقانون الجديد لا يوفر الحماية لشركة النفط الوطنية بل على العكس من ذلك فهو يزيحها عن الطريق وذلك لأنها في وضعها الحالي غير مؤهلة للتنافس مع أحد بعد أن أصابها الهزال خلال سنوات الحصار الطويلة وبعد أن تسربت كوادرها المهمة إلى الخارج.
5.القانون لا يلزم الشركات بجدول زمني لاستخراج النفط وإنما يترك ذلك لتقديراتها مما يتيح لها المجال بالتأثير على الأسواق العالمية وممارسة الضغوط السياسية على العراق، وهو ما يلحق الضرر بخطط التنمية.
6. القانون لا يلزم الشركات الأجنبية بالتعهد بعدم استخدام النفط العراقي لتسليط ضغوط سياسية أو اقتصادية على بلدان أخرى.
7. تعتبر عقود المشاركة أخطر ما ورد في هذا القانون فهي عقود لا مكان لها في بلد كالعراق، إذ هي عقود فيها قدر من المغامرة تتحمل الشركات النفطية مخاطرها لأنها تتعلق بالاستكشاف والتنقيب عن النفط في الأماكن الصعبة كالصحارى والبحار،
وقد تصل نسبة ما تحصل عليه الشركات في عقود كهذه أربعين بالمائة من النفط المستخرج. أما في حالة النفط العراقي فالاستكشاف يخلو من عامل المغامرة فلا تزال معظم الحقول النفطية المكتشفة غير مستثمرة، ومن الخطورة بمكان تصنيف الاستثمار فيها وفق هذا الباب.
هذا القانون هو من نتاج المحاصصة الطائفية التي زرعها الاحتلال في آلية العمل لمؤسسات الدولة العراقية، والتي انعكست سلبياتها على حياة المواطن الذي وجد نفسه في أطر تعمل ليس من منطلق الكفاءة للمركز الذي يُشغل ولا بمقياس الانتماء القوي للوطن وإنما بمقياس الانتماء العرقي والمذهبي.
إذ لم يكن بمقدور من وضع مسودة هذا القانون أن يكتب بعض فقراته لولا علمه بأن الطريق لذلك قد مهدته مواد قانونية في جسد الدستور الدائم، وهي النقاط المختلف عليها والذي جرى الاتفاق على إعادة النظر فيها ولم يجر ذلك حتى الآن.
لقد تساءل الكثيرون عما يريده الأميركيون من العراق ولِمَ يتكبدون هذه الخسائر في الأموال والأرواح؟، ولم لا ينسحبون ويستجيبون لرغبة الرأي العام في بلدهم كما انسحبوا من الصومال أو من لبنان قبل ذلك؟. ها قد جاء الجواب عن هذه التساؤلات فها هو قانون النفط الجديد يفسر ما صعب عليهم تفسيره، فهو يفسر سبب مجيئهم ويقدم المبررات لبقائهم، فرائحة البارود قد سبقت رائحة النفط.
في ضوء ما تقدم فإن من مصلحة العراق التأني وعدم الإسراع في البت في قضايا مصيرية لا تتعلق بحياة الفرد العراقي الحالي وإنما ينسحب تأثيرها الخطير على الأجيال القادمة التي لها حقوق في ثروات البلد ليس من حق أحد منا أن يتجاهلها،
إن من صالح الشعب العراقي تأجيل إصدار هذا القانون لحين عودة الصفاء إلى ربوع البلد وعودة اللُحمة إلى مجتمعه. أن مجلس النواب العراقي أمام فرصة حقيقية نادرة عليه أن لا يهدرها بل يستغلها ليبرهن للجميع بأن إجماع العراقيين على التمسك بمصالح البلد العليا أعمق كثيراً من الخلافات التي تمزقهم.
كاتب عراقي