بالتأكيد ان لجوء أصحاب وعمال مطاعم شاورما الدجاج في الأردن إلى إعلان الإضراب احتجاجاً على إقفال أكثر من 600 مطعم ومحل تجاري يعمل بها حوالي ثمانية آلاف عامل وموظف هو عمل حضاري وديمقراطي بامتياز، وحق أخلاقي وإنساني يتيح للمظلوم أن يعلن صرخته تحت الشمس الساطعة للضغط باتجاه إعادة النظر بالقرار ربما أو التفتيش عن حلول بديلة تضمن حقوق هؤلاء العمال والناس الذين يعتاشون من هذه المهنة مع عائلاتهم.
وإذا كنا نجد العذر لهؤلاء العمال بالتحرك لإشهار مظلوميتهم وحقهم المشروع بالتعبير، فإننا كذلك ينبغي ان نجد العذر للجهات الرسمية التي لجأت مكرهة لاتخاذ هذا القرار القاسي وربما الوجيه، لأن مطعمين اثنين لم يلتزما بالشروط الصحية المطلوبة وتسببا بهذا الأذى لكل زملائهم في هذا القطاع، ولهذا شاهدنا على الشاشات يافطات رفعت في الإضراب الاحتجاجي تقول «لا تزر وازرة وزر أخرى».
وطالب آخرون بالعودة عن القرار لان آثاره السلبية لا تنعكس على العمال وأصحاب المطاعم وحدهم، بل سيكون له انعكاس على القطاع السياحي في الأردن الذي تركز عليه الحكومة الأردنية عندما أطلقت شعار «الأردن أولاً» وبالطبع على القطاع الاقتصادي برمته في المملكة لأن المطاعم بشقيها الراقية والشعبية هي من أبرز المعالم السياحية والاقتصادية في أية دولة.
كما ان صناعة السياحة باتت في السنوات العشرين الماضية هي أهم معلم استثماري في العالم، حيث باتت مورداً مهماً لكل البلدان الصناعية وغير الصناعية، فالعاصمة البريطانية على سبيل المثال تستقطب أكثر من خمسين مليون سائح في العام الواحد وتسعى لزيادة هذا الرقم بالاستناد إلى التطوير الدائم في معالم المدينة الجذابة، وفي روسيا تم رصد أكثر من خمسين مليار دولار منذ سنوات قليلة لإعادة تطوير العاصمة موسكو وجعلها مدينة سياحية من الطراز الأول في العالم تنافس البندقية في ايطاليا وباريس ونيويورك.
منذ عشرين عاماً مضت لم يكن لصناعة الشاورما في بلادنا أي ذكر، بل كانت صناعة مغمورة لا يعرفها إلا أولئك الذين كانوا يزورون بلداناً مثل تركيا أو إيران المعروفة بمطاعمها الفاخرة، مع العلم ان المطبخ الشامي وتحديداً الحلبي معروف بغناه وتنوعه خصوصاً في مجال المشويات وسواها إلى جانب المطبخ اللبناني الذي بدأ يصعد نجمه في المنتصف الثاني من القرن الماضي تحديداً في «مازاته» أي مقبلاته المشهورة كالتبولة ومشتقاتها الأخرى.
كما ان مطبخ المغرب العربي هو الآخر نموذج للمطابخ العربية والعالمية الزائعة الصيت خصوصاً بما يتعلق بالطاجن وغيره، إلا ان الشاورما كانت بعيدة كلياً عن قواميس الناس في بلادنا، ففي بيروت التي كانت تعتبر عاصمة السياحة والازدهار مطلع السبعينات من القرن الماضي لم يكن يوجد فيها إلا مطعم صغير في شارع الحمراء الأشهر وكان زبائنه من القلة أو من الذين تدفعهم الحشرية لتجربة مثل هذه الأطعمة المستحدثة والطارئة عليهم.
وإذا كانت صناعة الشاورما أصبحت على ما يبدو عالمية وهي إرث تركي بامتياز تم تصديره على العالم إلا أن الإيرانيين بدورهم يدعون أنهم أول من عرفه، ويقولون انه كان أكل ملوك الفرس المفضل ولم يكن لعامة الناس إلا في عيد النيروز الأكيد وبعيداً عن إدعاءات بعض الحضارات والشعوب في قضايا الطبخ أن للعثمانيين أو الأتراك الفضل في جمع مختلف أنواع أطعمة الشعوب التي حكموها لأكثر من ستمئة عام، ويروى أن مطبخ قصر السلطان العثماني هو الأكبر في التاريخ ويعمل فيه أكثر من ألف وثلاثمئة طباخ وتنقل إليه شحنات الطعام من جميع بلدان العالم.
وبالرغم من أن أنواع الطعام أصبحت تنقل من بلد إلى آخر، وأن كل شعب يحتفظ بهويته الغذائية ومحاولة سطو شعوب على أطعمة شعوب أخرى كما حاول الإسرائيليون منذ مدة سرقة الحمص والفلافل من العرب والمصريين. والخلاف المبطن بين الأردنيين والفلسطينيين على هوية «المنسف» كما ان «المسخن» أصبحت وجبة آخر الأسبوع عند الفلسطينيين ومحاولة البريطانيين التشويش على المصريين بأصل «الكشري» كقولهم بأن جنودهم أيام الاستعمار البريطاني للهند نقلوه إلى مصر والبيتزا التي صدرها الأميركيون للإيطاليين.
عموماً لنتخيل فقط حال المصريين في حال أوقفت السلطات المصرية بائعي الكشري من الشوارع، أو لو لجأت الحكومة اللبنانية إلى وقف التعامل مع وجبة «المجدرة» التي كانت أكلة شعبية فأصبحت للأغنياء في هذه الأيام، أو لو عمدت الحكومات أو السلطات في المغرب العربي إلى وقف وجبة الكسكسي من التداول، إنها بالتأكيد ستكون أكثر شراسة من إضراب عمال شاورما دجاج الأردن!!
يقال ان أقرب طريق إلى قلب الرجل هي معدته، وبالتأكيد فإن أقرب طريق إلى قلب الشعوب ووجدانها هي معدتها التي تطحن المومبار والكوارع والأمعاء الغليظة والدقيقة، فلهذا فإن الشاورما التي أصبحت وجبة شعبية وجزءاً من الثقافة الغذائية للناس تحتاج إلى التعامل معها كما التعامل مع رغيف الخبز، العقل الاستراتيجي للفقراء.