أقر مجلس الأمن الدولي بالإجماع مساء العاشر من أغسطس الجاري قراراً يحمل رقم 1770 يقضي بتوسيع صلاحيات بعثة الأمم المتحدة وتعزيز دورها في العراق. وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا قد تقدمتا بمشروع هذا القرار في وقت سابق، إلا أن التأخير في إقراره كان نتيجة رغبة هاتين الدولتين في الحصول على موافقة الحكومة العراقية على فحواه حسب ما أفاد بذلك المندوب الأميركي في الأمم المتحدة زلماي خليل زاد.
وينص مشروع القرار على تمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة في العراق التي انتهت في اليوم نفسه، كما ينص على أن يقدم الممثل الخاص للأمم المتحدة في بغداد والبعثة الأممية «الدعم والنصيحة والمساعدة» للحكومة العراقية في المجالات السياسية والانتخابية والدستورية والقانونية والاقتصادية وكذلك على صعيد عودة اللاجئين واحترام حقوق الإنسان. ووفق هذا القرار ارتفع عدد الموظفين في مكتب الأمم المتحدة في بغداد بنسبة 50 % عما كان عليه عام 2003.
ويُذكر إن الأمم المتحدة كانت قد قلصت مهامها في العراق إلى الحدود الدنيا التي يمكن اعتبارها هامشية، وسحبت معظم موظفيها اعتباراً من العام 2003 بعدما تم استهداف مقرها في بغداد بشاحنة مفخخة أدت إلى مقتل21 شخصاً بينهم مبعوثها سيرجيو دي ميللو.
ويعتبر القرار 1770 مهماً من نواح عديدة أبرزها:
1. اعتراف صريح من قبل القوتين اللتين صاغتا سياسة التدخل العسكري في العراق ونفذتاها بالفشل في تحويل النصر العسكري السريع الذي حققاه إلى نصر سياسي بعد أن دخلت العملية السياسية في العراق في نفق يزداد ضيقاً مع مرور الزمن.
2. اعتراف رسمي عراقي بفشل الكتل السياسية العراقية من التوصل بمفردها إلى اتفاقات تحقق الاستقرار في البلد بطريقة ديمقراطية تعتمد اللوائح والأدوات والأساليب التي صنعتها العملية السياسية.
3. اعتراف دولي بخطورة ما يجري في العراق وضرورة التدخل الايجابي لتصحيح مسارات الأحداث فيه وعدم الاكتفاء بالتفرج فقط. فصدور القرار بالإجماع يعبر في الواقع عن الشعور بالمسؤولية إزاء معاناة الشعب العراقي بعد أن أصبح من غير الممكن إخفاء الأوضاع المزرية اللاإنسانية التي تعيشها نسبة كبيرة من العراقيين والتي رصدتها منظمات دولية غير حكومية عديدة كان آخرها مؤسسة أوكسفام التي نشرت في يوليو المنصرم تقريراً عن الأوضاع المأساوية في العراق ورد فيه: «أن ثلث سكان العراق، أي نحو ثمانية ملايين شخص، بحاجة ماسة لمساعدات طارئة، بما في ذلك ما يزيد على مليوني نازح داخل البلاد ومليونين آخرين من اللاجئين خارج العراق».
القرار هو تدويل للقضية العراقية بطريقة محسوبة لا تفرط بالمكاسب التي حصلت عليها الولايات المتحدة، وهذا التدويل قد يسهم في إعادة صياغة بعض معالم العملية السياسية يمكن في ضوئه تمهيد السبيل لخروج العراق من أزمته الحالية.
هنالك جهات عديدة تستفيد من هذا القرار، فهو يساعد إدارة الرئيس بوش في امتصاص بعض النقمة المتصاعدة لدى الرأي العام الأميركي بسبب الحرب في العراق على اعتبار ان دور المنظمة الدولية سيخفف من مسؤوليات الولايات المتحدة ويسرع في انسحاب قواتها. ويساعد القرار كذلك رئيس الوزراء البريطاني الجديد غوردن براون على كسب أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي من المحتمل أن يدعو إليها، فالحرب في العراق لم تحظ بأية شعبية لدى الرأي العام البريطاني.
يبدو مما يجري على المسرح السياسي العراقي بأن البلد لا يزال في «المرحلة الانتقالية» فهي لم تنته بعد، كما أراد لها بول بريمر عندما حدد ذلك بقانون إدارة الدولة العراقية الذي وضع استحقاقات زمنية للحكومة الموقتة وللحكومة الانتقالية. فانتهاء المرحلة الانتقالية ليس قراراً يُتخذ بل يكون واقعاً يعيشه الناس ينعكس في استقرار سياسي واقتصادي وعودة إلى حياة طبيعية أفضل من ذي قبل.
وهذا في الحقيقة لم يتحقق، بل ان الطين قد زاد بلة حين اتٌخذت قرارات خطيرة أسهمت في المزيد من الابتعاد عن الاستقرار، أبرزها صياغة الدستور الدائم الذي أسهم في تعميق الخلافات بين الكتل السياسية. ومن المتوقع كذلك المضي قدماً في تشريع قوانين أخرى في منتهى الخطورة كقانون النفط والغاز في هذه الفترة التي ما زالت تعصف باستقرار البلد وتحرم أبناءه من العيش الطبيعي.
من خلال رصد ردود الأفعال التي ترتبت على القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي يتضح بأنها متباينة قدر تباين مواقف الكتل السياسية وقدر سعة الهوة بين المصالح الضيقة لبعض هذه الكتل وبين مصلحة الشعب العراقي. فقد تباينت ردود الفعل بين ترحيب غير متحفظ وآخر متوجس، وضع توجسه في قوالب مختلفة.
وعلى الرغم من أن الكتل السياسية ذات الثقل الهام في المجلس النيابي العراقي لم تعلن عن موقفها الرسمي من هذا القرار بعد، إلا أن التصريحات التي أدلى بها بعض الساسة المعروفين تشير إلى هذه التباينات:
1. ينظر التحالف الكردستاني ببعض الحذر إلى هذا القرار ويساوره القلق بشأن مآل المادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بتطبيع العلاقات في محافظ كركوك. ومبعث هذا القلق هو ما صدر عن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، أشرف قاضي، بشأن هذه القضية فهو يرى بأن إجراء استفتاء بين السكان حول مصير المدينة الغنية بالنفط يعد أمراً صعباً في الوقت الحالي. وقد تعزز هذا التخوف عندما أعرب زلماي خليل زاد المندوب الأميركي في الأمم المتحدة عن رغبة واشنطن في إشراك الأمم المتحدة في حل قضية كركوك.
والحقيقة أن قراءة متأنية لما صدر عن هذين المسؤولين تكشف أموراً هامة تتعلق بالأهداف المتوخاة من إصدار هذا القرار، فهو لا يمنح الأمم المتحدة دوراً استشارياً فحسب كما يبدو من الصيغة التي وردت، بل يمنحها صلاحية اتخاذ القرار النهائي بغطاء الشرعية الدولية، وبالدعم الأميركي، بشأن ما هو مختلف فيه بين الفرقاء العراقيين. فإذا كانت المادة 140 من الدستور العراقي ليست غير قابلة للمساس.
كما يرى أشرف قاضي و زلماي خليل زاد، فالأمر من غير شك ينسحب على مواد أخرى من الدستور التي يختلف حولها بشدة الفرقاء في العملية السياسية والتي أضعفت من دوره وأفقدته صفة العقد الاجتماعي وهي الصفة الأساسية لأي دستور في العالم. وهذا ما دفع بعض أعضاء مجلس النواب من كتلة التوافق ومن القائمة العراقية ومن جبهة الحوار الوطني إلى عدم إبداء أي تحفظ على القرار الذي نحن بصدده.
فالدستور العراقي الذي أقرته الجمعية الوطنية المنحلة هو المحور المركزي في الأزمة العراقية، وتعديله هو المدخل نحو المصالحة الوطنية والقناعة بجدوى العملية السياسية.
ففي هذا السياق هناك من يرى بأن الاستحقاق الانتخابي لجمعية وطنية انتقالية، الجمعية الوطنية المنحلة التي صاغت الدستور، انتخبت في ظل ظروف غير طبيعية، لا ينسحب على شرعية دستور دائم، فالدساتير الدائمة لا تُصاغ في الفترات الانتقالية خاصة حين تكون أجواء هذه الفترات عاصفة كما هو الحال في العراق. وهناك من يرى الكثير من المآخذ حول الدستور لعل أبرزها كونه غير مستقبلي في حيثياته يرهن مستقبل العراق بإحداثيات الماضي.
2. ينظر بعض أعضاء المجلس النيابي من الكتل التي تنتمي إلى الإئتلاف العراقي الموحد بعين الحذر والتوجس لهذا القرار لأسباب مختلفة، بعضها يتعلق بالقلق من احتمال تخلي الولايات المتحدة عن بعض التزاماتها في العراق، وأخرى تتعلق بالخشية من أن يكون هذا القرار غطاءً شرعياً للتدخل في الشؤون الداخلية للعراق! وسلب كتلة الإئتلاف الموحد بعض المكاسب التي حققتها.
تخندق السياسيون العراقيون منذ بداية العملية السياسية، بعد سقوط النظام السابق، في خندقين متعارضين، ورغم ان كل خندق يضم فرقاء يختلفون في أساليب عملهم وفي أهدافهم وقد يتقاتلون بسبب ذلك، إلا أنهم يتفقون على ضرورة البقاء خلف رايات صَنعت الأوضاع البائسة، التي يمر بها العراق، منها رايات استراتيجية.
فرقاء الخندق الأول يتجمعون لغرض الحفاظ على الصيغ الدستورية الحالية فهي تمنحهم مفاتيح العملية السياسية، في حين يسعى فرقاء الخندق الآخر إلى استبدالها، لذلك يرون في قرار مجلس الأمن الأخير مدخلاً مناسباً لذلك. ويقف سواد الشعب، في العراق الممزق، حائراً يائساً محبطاً ينتظر ما تأتي به الأيام.
كاتب عراقي