مر تاريخ البشرية بعصور عدة حملت مسميات مختلفة: العصر الحجري ـ العصر الحديدي ـ عصر النار ـ عصر ما قبل الطوفان ـ العصور الوسطى ـ عصر التنوير ـ عصر الآلة ـ عصر النهضة ـ العصر الحديث ـ عصر الفضاء ـ عصر الكمبيوتر.... إلخ.

غير أن العصر الذي نمر فيه والذي بدأ تحديداً مع الألفية الثالثة لا تنطبق عليه تسمية أخرى غير: (عصر الدم). وبالتالي نستطيع أن نعتبره بخجل أكثر العصور تخلفا في تاريخ البشرية. حيث إن العنف يمثل حالة تراجع للأخلاق الإنسانية إلى العصور التي كان فيها الإنسان لا يعرف بعد قيمة الإنسان الآخر، وكان قتله أمراً مشروعاً للاستيلاء على صيده.

الفرق البسيط بين ذلك العصر الذي عاش فيه الإنسان قبل 000,200 سنة في إفريقيا والألفية الثالثة التي نشكل اليوم جزءا منها هو أن ذلك الإنسان كان يقتل للبقاء وفي حدود الجوع دون إسراف أو دفاعا عن النفس دون أن يتعدى إلى الآخرين، بينما نحن نقتل لألف سبب وسبب تافه. وأصبحت المصانع تصنع الموت وتحرض عليه مقابل زيادة أرباح الشركات الصناعية.

قبل أيام اتهمت كنيسة إنجلترا شركة سوني بأنها استخدمت مبنى الكاتدرائية الإنجليزية بصورة «غير مقبولة» في لعبة كمبيوتر عنيفة، وطالبت الشركة بسحب اللعبة من الأسواق. وذكر موقع السي إن إن الالكتروني بأن اللعبة، التي يطلق عليها اسم «مقاومة: سقوط رجل»، تتضمن إطلاق نار افتراضياً داخل الكنيسة يسفر عن مئات القتلى، حيث يتقمص اللاعب دور جندي يحقق انتصاراً في المعركة التي تدور داخل الكاتدرائية. أي أن العنف والدين أصبحا سمة هذا العصر.

هذا ليس فحسب. فكافة ألعاب الفيديو والألعاب الالكترونية المتطورة جدا والتي تباع بشكل خاص للأطفال (ونشهد منها أشكالا مختلفة في أقسام ألعاب الأطفال في مراكز التسوق في دولة الإمارات العربية المتحدة والتي نتمنى أن يُتخذ ضدها إجراء صارما) ومعظم الرسوم المتحركة الموجهة لصغار السن لا تخرج عن هذا الإطار، مرورا بالأفلام السينمائية والتلفزيونية والكتب وموسيقى الشباب. حتى أصبح العنف والقتل أمرا عاديا تماما كما يحدث اليوم بين الكبار في معظم أنحاء العالم.

كنا نعتقد أن العنف قبل 6 سنوات يتمثل في ضرب برجي التجارة العالميين في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001. لكن تلك الضربة الانتحارية على حجمها خلفت أقل من 3000 قتيل حسب الإحصائيات الأخيرة. وكان ذلك رقما ضخما كما صورته لنا أجهزة الإعلام الأميركية.

واعتقد العالم بأسره أن هؤلاء الضحايا يجب الانتقام لهم بأي ثمن وفي أي مكان من العالم. وربما نسي العالم بأن قنبلة ذرية واحدة فقط ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على مدينة هيروشيما في عام 1945 قد خلفت في أقل من خمس ثوان 000, 80 قتيل، وبعد ذلك بشهر 000, 60 ضحية أخرى لحقوا بهم نتيجة للإصابات أو الإشعاعات. أما ناجازاكي التي لحقت بها بعد ذلك بوقت قصير فقد خلفت هي أيضاً رقما قريبا من ذلك.

لقد ظن العالم (وخاصة أوروبا والولايات المتحدة الأميركية) بأنه خرج من تجربة مريرة من الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن زمن العنف قد ولى. فصور الدمار التي نشاهدها اليوم في الموسوعات التاريخية لتلك الحرب تقشعر لها الأبدان.

وربما يجهل الكثيرون الأرقام التي خلفها ذلك العنف الأغبى في التاريخ: فمن جانب المحور: 12 مليون كائن بشري بغض النظر عن كونه عسكرياً أو مدنياً. ومن جانب الحلفاء: 50 مليوناً من نفس جنس تلك الكائنات البشرية. وهذا رقم مرعب في حربين لم تطولا لأكثر من 8 سنوات، مع فاصل هدنة بسيطة بينهما.

واليوم يبدو أن نفس تلك الدول التي تحضرت بعد الحربين العالمية الأولى والثانية تشتم رائحة الدم في ترابها. والكل اعتقد أن نهاية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي سابقاً والولايات المتحدة الأميركية قد انتهت وأننا بالفعل نتجه نحو سلام دائم للبشرية أو عصر السلام.

وبدلا من الاتعاظ من أرقام القتلى السابقة ومن الدمار الذي حول أوروبا إلى ركام وغبار وفوضى نفاجأ اليوم بإصرار بعض الدول العظمى على إثارة نزعة العنف والكراهية لدى الآخر بحجة الدفاع عن النفس.

صحيح أن الاتحاد السوفييتي قد خسر الكثير من قوته الاستراتيجية أمام الولايات المتحدة الأميركية نتيجة لعدة اتفاقيات رمت في الظاهر بحسن نية إلى خفض التسلح النووي (بينما كان الهدف غير المعلن منها إضعاف شوكة الاتحاد السوفييتي وقتها)، فخرج منها مخدوعا.

حيث لم يتوقف خبراء وأمراء السلاح في الولايات المتحدة عن تطوير أسلحة دمار شامل أكثر فتكا من سابقتها (كتلك التي تمت تجربتها على الشعب الأفغاني والعراقي والفلسطيني واللبناني على سبيل المثال)، إلا أن روسيا اليوم ـ أيا كان وضعها ـ يبدو أنها مستعدة وقادرة على العودة إلى التسلح من جديد. وهذا يعني أن كرة الثلج سوف تكبر وتكبر بين الدولتين حتى يصعب إيقافها إلا بانفجار كوكب الأرض برمته.

ترى ماذا يعني قرار الولايات المتحدة الأميركية الأخير بنشر نظام صواريخ دفاعية في أوروبا؟ الرد كان مضحكا بالفعل! ردع كوريا الشمالية وإيران ! وكما (مشت) اللعبة على الاتحاد السوفييتي في الثمانينات لتحطيم ترسانته النووية، (مشت) عليه هذه المرة أيضا، واقتنع الرئيس بوتين بحسن نية بوش! بل ان الأخير طالبه بالانضمام إليه لمواجهة خطر إيران وكوريا الشمالية! أي أن يصبح تابعا مدى الحياة.

على أية حال، فإن اتجاه إيران لتطوير قوتها النووية والعنف في العراق وما يخلفه من قتلى بالمئات يوميا سواء من جهة المدنيين أو العسكريين أو جنود المحتل الذين زج بهم في أرض الدم والدمار، ليسا في حاجة إلى صواريخ دفاعية إضافية في أوروبا.

والعالم بأكمله أصبح يتجه بشكل متزايد ومريع نحو العنف والقتل والتدمير الشامل: في الشوارع والمنازل والمدارس والجامعات ودور الأوبرا والقطارات والمترو والمساجد والكنائس والمعابد والسينما والتلفزيون والصحف والمجلات وحتى في قصص الأطفال الصغار.

أصبحت الدماء في كل مكان، وأصبحت الأرض متشربة بدماء الأبرياء وغير الأبرياء، ونحن نتجرع يوميا مياه عذبة ولكنها لا شك ملوثة بتلك الدماء. إننا جميعا صغارا وكبارا، حكاما ومحكومين، جهلة وعلماء، نتحمل المسؤولية الكاملة عن تلك الجرائم التي تحدث أمام أعيننا. وإذا أصبحت تجارة العنف وسيلة لكسب الرزق، وللحصول على رغيف العيش، فإن هذا الرزق ملوث بدماء الأبرياء، وهذا الرغيف الذي نطعمه أبناءنا تم عجنه بدم الأطفال والفقراء.

ككل عام، يجتمع زعماء الدول الثماني الكبار (الدخانية) للنظر بعطف على أحوال المعدمين في العالم وفي افريقيا بشكل خاص، ولكن بين ردهات المؤتمر (وكذلك في الواقع) تتم بتهكم وسخرية مناقشة أفضل وأسرع الطرق لسرقة لقمة عيشهم! أما التغيرات المناخية، فهي آخر اهتمامات تلك الدول (الدخانية) التي لم يعد نظرها يميز ما بين اللون الأخضر والأسود.

وربما لا تدرك بأن قيمة رصاصة واحدة يمكن أن تطعم جائعا على وشك الموت في مكان ما في قارة افريقيا. وأن قيمة قنبلة يدوية صغيرة قد تحفر بئرا يروون بها عطشهم وعطش أطفالهم. وأن قيمة دبابة ميركافا واحدة تحطمت على أرض لبنان قد تبني مزرعة كاملة من القمح تكفي لإطعام قبيلة كاملة. ولكن ما يحدث غير ذلك... والناس تموت قتلاً أو جوعاً.

فكيف لا نطلق على عصرنا لقب العصر الدموي؟

جامعة الإمارات

dralaboodi@gmail.com