الجوع مفردة غير محببة إطلاقاً، سواء عند من عرف معناها بالتجربة والمعاناة الحقيقية أو عند من لم يعرف معناها واقعياً، إنما معرفة نظرية فقط. ويمكن القول إن الجوع هو أشرس أعداء البشرية، وهو مرتبط بظروف عدة، منها الفقر والحرب، وكلاهما منتشر على امتداد العالم، بحيث نجد الجوعى في كل مكان يممنا إليه وجهنا.

وعلى الرغم من التطور والرفاه الذي يعيشه العالم تقنياً وعلمياً واقتصادياً وعسكرياً، وتنعم به الشعوب التي تنتمي إلى الدول الكبرى، إلا أن نسبة كبيرة من سكان الكرة الأرضية لا يزالون يعانون من الجوع، ويقتاتون على مرارة الحرمان من الطعام والشراب، ونحن في الألفية الثالثة.

إن مشكلة الجوع من المشكلات التي كان يمكن حلها بسهولة لو أن الجهود الدولية تكاتفت واتحدت للحدّ منه والقضاء عليه في الدول التي تعاني منه بشدة، ولكن يبدو أن الجهود الدولية تتكاتف بسرعة من أجل مصالحها الخاصة، وهي على استعداد لعبور القارات والمحيطات من أجل حماية تلك المصالح في أي بقعة من العالم، بل واستنفار دول العالم كله من أجل ذلك، ولكنها ليست مستعدة لبذل جزء بسيط من تلك الجهود الجبارة التي تقوم بها من أجل مصالحها ـ بالحماس نفسه ـ لإنقاذ الأطفال الذين تنطفئ أرواحهم وهم يحبون على أعتاب سنيّ عمرهم الأولى.

وهذه الدول كثيراً ما تتشدق بحرصها على حماية سكان العالم من الأخطار المحدقة بهم، وتخليص الدول والشعوب المجاورة لإحدى الدول المشكوك بامتلاكها سلاحاً نووياً من ذلك الخطر المتَوَهَّم، وتسمح لنفسها ـ بناءً على هذه الأوهام ـ بالتدخل في أمورها الداخلية والخاصة بحجج واهية، لعل من أكثرها ترداداً حجة حماية الشعوب، والحفاظ على أمن بعض المناطق واستقرارها، وغير ذلك من حجج تخفي وراءها الأهداف الحقيقية لتلك التدخلات.

وهذه الدول نفسها تعرف أكثر من غيرها أن شعوباً أخرى في دول فقيرة، لا نفط عندها ولا ثروات طبيعية، لا تجد ما تأكله، ويموت منهم ملايين البشر سنوياً، دون أن تهتم بتوجيه طاقتها الهائلة نحوهم، لحمايتهم من الفقر، وإنقاذهم من الجوع، ومساعدتهم بتوفير ما يسدون به رمقهم.

لا يخفى على أحد ممن يتشدقون بحرصهم على بسط جناحيْ الأمن والاستقرار على شرق العالم وغربه أن عدد الذين يعانون من الجوع وسوء التغذية حول العالم يبلغ مليار شخص، ويموت يومياً حوالي 000,24 شخص بسبب الجوع أو لأسباب تتعلق به. وهذه الإحصائيات متوفرة مجاناً لجميع المهتمين على موقع الجوعى التابع للأمم المتحدة.

وهو موقع يُعنى بتحديث إحصائياته بشكل آني. ومن الواضح أن هذه الأرقام تمثل وصمة عار على جبين الإنسانية التي دخلت عامها السابع من الألفية الثالثة. إن الأموال التي تُصرَف دولياً على الحروب وملحقاتها، أو على الفن ومهرجاناته ومسابقاته وجوائزه، أو على الألعاب الرياضية بمختلف أنواعها، أو على الإعلام، أو على أي شيء آخر لا يمكن تقديرها ولا حصرها، وهذا يعني أن الأموال موجودة ومتوفرة،.

ولكن لا يوجد وعي حقيقي ـ لدى من يملكون هذه الأموال من دول وأفراد ـ بحجم المأساة التي يعانيها الجوعى على امتداد الكرة الأرضية، ولا يوجد من يقوم بهذه التوعية بالشكل الصحيح الذي يُرِي إنسان القرن الحادي والعشرين الذي يتنطع بتحضره وتقدمه كم هو عارٍ من الأخلاق والقيم التي تمثل أهم الوشائج التي تصل بينه وبين الإنسانية، وتجعله فرداً منها وفيها. وأكبر دليل على عدم وجود هذا الوعي، أو من يقوم بالتوعية بشكل صحيح هو هذا التفاوت العظيم بين حجم الأموال التي تُصرَف في وجوه شتى لا تبلغ أهميتها أهمية إنقاذ حياة إنسان من الموت بسبب الجوع، أو بسبب سوء التغذية، وبين حجم الأموال التي تُبذل من أجل الجوعى.

تذكر الإحصائيات في موقع الجوعى أن نسبة وفيات الجوع بسبب المجاعات والحروب تصل إلى 10% فقط من إجمالي عدد الوفيات، وهما أكثر الأسباب شيوعاً للموت جوعاً، في حين أن غالبية وفيات الجوع ـ حوالي 90% من إجمالي عدد الوفيات ـ تحدث نتيجة سوء التغذية المزمن. إنه لمن المؤسف التفكير في أن كثيراً من العائلات تواجه فقراً مدقعاً، ولا تستطيع إيجاد طعام كاف لتقتات عليه، في حين تُصرف الأموال دون حساب على ما يتضاءل حجم ضرورته أمام فم الجوع المفتوح على فكّيْه.

سيظلّ الجوع جائعاً إلى المزيد من البشر، إن لم يجد من يوقفه عند حدّه، ويعلن عليه التمرد والعصيان، ويوقف عنه زاده اليومي من الأطفال الفقراء البائسين الذين لا يجدون من يمد إليهم يده بكوب حليب يسكت به صياح بطونهم. وسيظل الجوع فاغراً فاه لسنوات عدة قادمة إذا لم توجد حركة جادة وحقيقية من المنظمات الدولية والجهات ذات الاختصاص، بدعم من الدول الكبرى خصوصاً، والأمم المتحدة عموماً، حتى تتمكن البشرية من الخلاص من هذا العار المتراكم الذي ينتقل فيها جيلاً بعد جيل دون أن تتمكن من تجاوزه على الرغم من قدرتها على تجاوز الكثير من الأخطار الأخرى.

وعلى الرغم من التفاؤل الذي يبثه إلى حد ما موقع الجوعى بما ذكره في إحصائياته من أن عدد الوفيات يتناقص بنسب جيدة خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أن الأرقام لا تزال مرتفعة حد الخجل. وهذا يعكس بلا شك مدى جدّية التعامل مع هذه المشكلة التي تعاني منها حوالي أربع وثلاثين دولة منها حوالي ثلاث وعشرين دولة في قارة إفريقيا وحدها.

يقال في المثل الإيطالي إن الجوع ألدّ أعداء الكرامة، ولنا أن نتخيل نفسيات هؤلاء الذين يعانون من المجاعة المزمنة منذ أن فتّحوا أعينهم على الدنيا وهم يتوارثون جوعهم كما يتوارث غيرهم أمواله وممتلكاته، كيف يكون حالهم، وكيف يعيشون لحظتهم، وكيف يفكرون بمستقبلهم إن كان لهم مستقبل في ظل سوء التغذية الذي يتغذى على الأطفال دون الخامسة من العمر ليمثلوا ثلاثة أرباع إجمالي عدد الوفيات السنوي.

وإذا كانت نار الحروب مستعرة الأوار في مواقع كثيرة من جسد الكرة الأرضية، فلنا أن نتخيل أيضاً نار الجوع التي تتأجج مؤازرة لها، ونار الإحساس بفقدان أعز ما يملكه الإنسان السويّ، وهو كرامته التي لا يتردد الجائع في التنازل عنها، إن لم يكن من أجله، فمن أجل أطفاله وعائلته، وفي النهاية يعاني هو وهم المصير نفسه، والعالم يتمايل طرباً وافتتاناً مع أجساد الحسناوات شرقاً وغرباً دون وخز ضمير، لأن الضمير الإنساني على ما يبدو أصبح يعاني من غفوة مزمنة.

جامعة الامارات

sunono@yahoo.com