السؤال الذي يطرح هو ما هو سر نجاح الدول المتقدمة، وكيف وصلت هذه الدول إلى مرحلة متقدمة جداً من الازدهار والنمو في شتى المجالات والمناحي الحياتية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية وغيرها وكيف استطاعت هذه الدول المتقدمة أن تسير بكافة هذه المجالات والنواحي بخطى ثابتة وواحدة بحيث لا نجد هناك جانبا متقدما ومتطورا وآخر متأخرا ومتخلفا وإنما نجد أن كافة هذه الجوانب والمناحي جميعها متقدمة ومتطورة في آن واحد وهناك تساؤلات كثيرة قد تطرح من مجتمعات دول متخلفة أو من مجتمعات دول توقفت فيها عملية التقدم والتطور عند حد معين وهم يتساءلون عن علة ذلك ولماذا دولهم متخلفة .
ولماذا دول أخرى متقدمة ومتطورة على الرغم من أن دولهم هي أكثر من حيث الموارد الاقتصادية والبشرية وفيها من إمكانيات التقدم، ولكن التساؤل الذي يثار هو لماذا لم تصل إلى ما وصلت إليه الدول الاخرى من التقدم.. وهذه الاسئلة قد تتفاعل مع المجتمعات التي تأخرت عن ركب التقدم من التي تريد النهوض والوصول إلى مصاف مجتمعات الدول المتقدمة.
إذن إذا أردنا تفحص الموضوع والتمعن فيه للوصول إلى إجابة دقيقة عن هذه التساؤلات سوف نجد أن هناك فلسفة عميقة تؤدي إلى استراتيجية فكرية وعملية في كيفية بناء الدول والمجتمعات بشكل متطور مما يجعل هذه الدول متقدمة ذات مجتمع راق وهذه الفلسفة هي تحليل كامل في كيفية بناء الإنسان.
وهذا هو الأساس بل هو المعادلة التي تجيب على كافة التساؤلات، ولكن كيف يمكن تصور هذه الفلسفة والإنسان والدولة والمجتمع معاً وكيف يتم البناء ولماذا لا توجد فلسفة للتطبيقات الاقتصادية وأخرى اجتماعية وسياسية؟ والجواب الذي يفرض نفسه يقول نعم فلسفات التطبيقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها مطلوبة ولكن متى؟
تكون بعد بناء الإنسان بناءً صحيحاً أسسه قوية يصلح لخلق قاعدة الدولة وقيادتها وبدون هذا البناء لن نجد دولة قوية ولن نجد مجتمعا راقيا وهذا هو الربط الجدلي بين الإنسان والدولة. فيكون إذن لدينا القاعدة الأولى في بناء الدولة القوية وهو بناء الإنسان أولاً وقبل كل شيء ووفق مفهوم استراتيجي لكي يستطيع هذا الإنسان من مسايرة الحياة الحديثة ويواجه التحديات.
ويقوم بالبناء الفعال لأبناء جيله والأجيال اللاحقة. وهذا الأمر يتوجب أولاً أن تكون هناك قيادة حكيمة في تلك الدولة مؤمنة إيماناً قوياً بالإنسان ومقدراته واعتباره هدفاً استراتيجياً لبناء الدولة بل سوف يعتبر هذا الإنسان عنواناً للدولة، وهذا الهدف الاستراتيجي (الإنسان) يجب على قيادة الدولة استهدافه والوصول به إلى المقاصد من استهدافه وهو بناء الدولة القوية وازدهارها.
ولكن التساؤل الذي يتم طرحه هو كيف يتم بناء هذا الإنسان فهناك دراسات ونظريات مختلفة في بناء الإنسان للوصول إلى دولة قوية، وقد تعمد الدولة إلى بناء إنسان وفق استراتيجية تقوية جوانبه العسكرية والاجتماعية دون المجالات الأخرى أو دون الاهتمام بالمجالات الاخرى وهنا سنكون أمام دولة قوية من الناحية العسكرية التي سوف تستهلك كافة الثمار الاقتصادية وتستنزف طاقاتها البشرية .
وبعد فترة قصيرة نجد هذه الدولة تنهار وتتردى أوضاعها. وقد نجد هناك بناء استراتيجي آخر هو بناء الإنسان اقتصاديا فنجد مثل هذه الدولة قوية اقتصادياً غير أنها موضع أطماع من الآخرين لعدم تقوية مجتمعات وتحصينه لذا نجد مثل هذه الدول تنهار أيضاً.إذن، ما هو السبيل وأية نظرية أو استراتيجية هي التي تكون مطلوبة في بناء الإنسان لنكون أمام دولة قوية متقدمة ومزدهرة؟
نقول إن بناء الإنسان يجب أن يكون على أسس علمية وأول لبنة لهذا البناء هو وضع خطه استراتيجية للتعليم وهذه الخطة يجب أن تتضمن الأسس القوية لنقل التعليم والعلوم إلى النشء لبناء مجتمع متعلم متقدم ليكون القاعدة القوية للدولة وعنوان تقدمها وتطورها على شرط أن تكون الخطة والمسيرة التعليمية شاملة كل مناحي الحياة وكل ما له علاقة بالدولة والمجتمع على المستويين الداخلي والخارجي. وهذا يجعل أبناء الدولة أقوياء متسلحين بالعلم والمعرفة وهم يقودون مفاصل الدولة في مختلف المناحي الحياتية.
ومتى ما استطاعت قيادة الدولة من وضع خطة إستراتيجية تعليمية لابنائها فإنها حتما سوف تقطف ثمار التقدم والتطور والازدهار وهذا ما يثبت أن سلاح الدولة وأساسها هو مجتمع متعلم مثقف - ودليلنا على ذلك هو العودة إلى الماضي البعيد والقريب من خلال قراءة التاريخ وسوف نجد أن هناك دولا كانت في وقتها متقدمة استطاعت بناء حضارات شهد لها التاريخ حتى وقتنا هذا والسبب في ذلك هو أن تلك الدول والحضارات كان أساسها العلم والمعرفة وطرق نقل تلك العلوم والمعارف إلى أبنائها.
وعندما نذكر حضارات فإننا نتذكر الزهو والتقدم لتلك الدول والحضارات في كافة مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية وغيرها وعندما نقول حضارة نعني صفة الدوام والاستمرار في التقدم والازدهار لفترات طويلة قد تصل إلى عدة قرون من الزمن. وهذا الحديث هو ليس ببعيد عن الأمة العربية والإسلامية فالعلم والمعرفة هما أساس الفكر الإسلامي.
بل أن هناك قواعد آمره وردت في القرآن الكريم تأمر الإنسان بتلقي العلوم والمعرفة والتسلح بها بل أن الدين الإسلامي قائم على العلم والمعرفة لذا فإن الاجداد وجدوا طريقهم الصحيح في بناء حضارة الدولة الإسلامية والتي استمرت لقرون عديدة وكان المسلمون الاوائل أصحاب الفضل على البشرية جمعاء حتى هذه اللحظة لما وصلوا إليه من علم ومعرفة نقلوها إلى العالم للاستفادة منها كونها الطريق الوحيد لبناء إنسان ومجتمع ودوله قوية متطورة مزدهرة.
والقول ينسحب هنا على ما بعد الحضارة الإسلامية وهي فترة نهوض الدولة الأوروبية بعد أن تلقت العلوم من العرب والمسلمين من خلال وفودهم التي توافدت على العواصم العربية والفكرة الرئيسية والجوهرية في الموضوع هو التعليم وطرق نقله إلى الإنسان لبنائه بناءً صحيحاً وهكذا نجد هذه الدول الأوروبية اليوم دولا متقدمة ومتطورة في كافة المناحي الحياتية.
صحيح أن قسماً من الدول العربية والإسلامية في هذه الحقبة من الزمن وما قبلها اهتم بتعليم أفراد المجتمع وبشكل متفاوت إلا أن معظمها أخفقت في طريق نقل العلم والمعرفة إلى أبنائها بشكل سليم، صحيح أن تجارب الآخرين مهمة ويمكن الاستفادة منها كما فعل الأوروبيون سابقاً غير أنه يجب أن يكون هناك اختيار يتوافق والطابع الخاص لتلك الدول وأخذ ما هو مفيد وترك غيره، هذا التصادم في أفكار نقل العلوم إلى المجتمعات العربية والإسلامية جعلتها متأخرة عن الركب نوعاً ما.
غير أن بعضاً من هذه الدول العربية والإسلامية أخذت منحى آخر متطورا وحديثا في نقل العلوم والمعرفة إلى أبنائها مع التركيز على العلوم والتكنولوجيا الحديثة التي بدأت تطغى على باقي العلوم والمعرفة ومن بين هذه الدول هي دولة الإمارات العربية المتحدة التي وضعت قيادتها الحكيمة ومنذ تأسيس الدولة خطة استراتيجية للتعليم، وهذه القيادة استهدفت الإنسان في خطتها الاستراتيجية في قيام الدولة ونموها وتقدمها فكان الإنسان مشروعها الاستراتيجي .
والتي استطاعت بناءه بناء علمياً صحيحاً قائماً على أسس الحداثة والتطور المستمر بعد أن تم الاخذ بنظر الاعتبار التطورات الكبيرة التي حصلت في مجال العلوم التكنولوجية وأهمية نقل هذه التجارب وطرق التعليم إلى أبناء المجتمع الإماراتي، والمتتبع لمسيرة دولة الامارات العربية المتحدة وقيادتها ومجتمعها يتلمس بشكل كبير طفرات التقدم والازدهار التي تنعم بها هذه الدولة ومجتمعها وعلى مختلف المستويات وبنسق واحد ولم نجد أو نلمس تفاوتا بين تقدم جانب من جوانب الحياة دون الاخر وهذه شهادة النجاح لهذه الدولة وقيادتها ومجتمعها والتي أصبحت مضرب مثل وتجربة يحتذى بها.
كاتب إماراتي
rashid.shabib@binshabib.ae