يكثر المتطفلون في كل زمان ومكان، ويتخذ تطفلهم أشكالا مختلفة، ولعل من أشهر المتطفلين ـ أو الطفيليين ـ العرب (أشعب) الذي كان يفرض نفسه على المآدب والولائم. وقد كان هذا هو أقصى ما يفعله طفيليو الماضي، الذين اكتسبوا شهرة واسعة في هذا المجال.
وإذا كان طفيليو العرب أحرزوا شهرة كبيرة خلدت ذكراهم حتى أيامنا هذه نتيجة أنهم كانوا يفرضون أنفسهم على موائد الآخرين فقط، فإننا نجد ـ في زمننا هذا ـ طفيليين من نوع آخر، يفرضون أنفسهم على حياة الآخرين عامة، دون أن يشعروا بثقل حضورهم، أو بوجودهم غير المرغوب فيه، ودون أن يروا أنهم يقحمون أنفسهم في حيز لا يتسع لهم، ولا يتقبلهم.
ويمكن التوقف عند أحد الأمثلة الواضحة لهذه الفئة، وهو مثال المنتسبين إلى جماعة من الناس دون أن يكونوا منهم فعلا، كالذين يفرضون أنفسهم على الوسط الثقافي ـ على سبيل المثال ـ ظنًا منهم أنهم جزء منه، أو رغبة منهم في أن يكونوا جزءًا منه، مع أنهم يعلمون علم اليقين أن ليس بإمكانهم أن يكونوا جزءًا منه لا بالظن ولا بالرغبة، إنما بالموهبة الحقيقية فقط، ولكنهم مع هذا يكابرون ويصرّون على فرض أنفسهم على وسط لم ينجح حتى الآن في غربلة نفسه، وتصفيتها من الشوائب التي تعلق بها.
ومثل هذا النموذج من الناس لا يكتفي بوجوده في وسط لا ينتمي إليه أساسا، ويحاول فرض نفسه عليه وعلى أهله، بل يسعى جاهدا إلى الحصول على اعتراف من أهل هذا الوسط به وبموهبته المزعومة. ولأنه يفتقد أساسًا أية صلة تربطه بهذا الوسط، فإنه لا يستطيع إلا أن يتوسل بالطرق والوسائل التي يمتلكها، وهي طرق ووسائل لا يعرفها المثقفون الحقيقيون، ولا يقبلونها، ويحملون إحساسًا فطريًا داخليًا جماعيًا تجاهها بالرفض والإنكار، وبالتالي رفض من يستخدمها وإنكاره.
ومن نافل القول الإشارة إلى أن أولئك الطفيليين الذين كانوا يفرضون أنفسهم على موائد الآخرين كانوا يتمتعون بخفة ظل وروح، وسرعة بديهة، وحضور ذهن، وهي كلها خصال تجعل وجودهم في أي مكان مقبولاً، حتى إن كان دون سابق معرفة أو دعوة. أما نموذج الطفيليين الذين أتوقف عندهم في هذه السطور فلا يتمتع أفراده بأي من هذه الصفات، ويمكن القول دون مبالغة إنهم يتصفون بعكسها تمامًا، وهو ما يجعل الفرد منهم شخصية غريبة فريدة، لا يمكن أن نرى لها تكرارًا إلا بين أفراد النموذج نفسه.
وقد يكون من المقبول ـ بصعوبة ـ وجود أشخاص متطفلين، يفرضون أنفسهم على الآخرين دون مراعاة لهم، ولظروفهم، ولمدى تقبلهم لهم، ولكن الذي لا يمكن قبوله بحال من الأحوال هو وجود شخص يفرض نفسه بثقة تبلغ حد الوقاحة، آخذا من وقت الآخرين دون خجل، وفارضا نفسه على تفاصيل أيامهم دون حياء، وهو يشعر فوق ذلك أن هذا حق طبيعي من حقوقه، ولا يجد مبررا لردّه عن ذلك، أو رفض التجاوب معه.
أين أولئك المتطفلون من هؤلاء، وأين ما كان يتمتع به أولئك من صفات إيجابية تخفف من حدة صفاتهم السلبية، مما يتصف به هؤلاء من صفات سلبية تزيدهم رفضًا وتنفيرًا؟! وهذا النموذج الذي أتحدث عنه ليس من صنع الخيال، إنما هو نموذج موجود بيننا، يمارس حياته بشكل طبيعي جدًا، ولا يبدو أنه يدرك ما يفعله بالآخرين، وعندما يجد من يمسكه بذراعين صلبتين، وينبهه إلى خطأ ما يقوم به، لا يتراجع، ولا ينتبه،
ولا يصدق أنه قد أخطأ في حق أحد، بل يرى أنه لا يفعل شيئًا سوى أنه يقوم بحقه الطبيعي في الحياة الاجتماعية، من اختلاط بالآخرين، وتبادل الآراء والخبرات معهم، وإفادتهم بما لديه والاستفادة مما لديهم. إنه لا يستوعب إطلاقا أن الحياة لا تسير بهذه الطريقة، وأن من يرغب ـ هو ـ في التعامل معه والاحتكاك به قد لا يرغب في القيام بذلك معه، أو أنه لا يجد في وقته الحاضر إمكانية القيام بذلك، أو أنه لا يريد فقط لأنه لا يريد.
والحياة مليئة بنماذج مختلفة من أفراد هذه الفئة التي تتراوح درجات تقبلها لدى الناس، ولكن معظم أفراد المجتمع يكادون يجمعون على رفضها وعدم تقبل سلوكها الذي يسلب الآخرين راحتهم، ويجعلهم يعيشون دائمًا تحت ضغط نفسي ناجم عن وجود هؤلاء المتطفلين حولهم، وتدخلهم في تفاصيل حياتهم، أو فرض أنفسهم بوصفهم جزءًا من تفاصيل حياتهم الخاصة.
ومن ذلك على سبيل المثال نموذج الجارة المتطفلة، اللحوحة في كل شيء، التي تفرض نفسها على جيرانها في أي وقت، وفي أي مناسبة، بدعوة ودون دعوة غالبًا. وقد نجحت الممثلة الخليجية الفاضلة سعاد علي في أداء شخصيتها في أحد المسلسلات الخليجية حين قامت بدور (أم هلال).
و(أم هلال) شخصية موجودة بيننا في كل مكان، وليس فقط في المنزل وعلى مستوى الجيرة، بل توجد أيضًا في علاقات العمل، وبين المحيطين بنا ممن نعرفهم ولكنهم لا يبلغون درجة الأصدقاء، أو ممن يحاولون محاولات فاشلة دائمًا أن يكونوا في منزلة الأصدقاء لكل من يلتقون بهم.
وقد نتعثر يومًا بنموذج من نماذج هذه الفئة دون أن نحسب لذلك حسابًا، إذ يحدث أن يلتقي الفرد منا في زمان ما ومكان ما بأحد الأشخاص، ويحدث تعارف سريع، كالذي يحدث في غرفة الانتظار في إحدى العيادات، أو في زيارة لصديقة من الصديقات، أو غيرها من الأماكن التي يجتمع فيها أناس يلتقون ببعضهم لأول مرة، ومن طبيعة التعارف السريع أن ينتهي سريعًا أيضًا بمجرد الخروج من ذلك الحيز الزماني والمكاني غالبًا.
لكن إذا كان الشخص الذي تم تبادل الكلام معه من أفراد هذا الفئة، ويمثل نموذجًا من نماذجها، سيبدأ في عدّ نفسه صديقًا قديمًا، ويفرض نفسه بالزيارات، وبالمكالمات الهاتفية، وبالرسائل النصية، وبكل الوسائل، وقد يفاجئك بزيارات غير متوقعة دون إخطار سابق.. أليس صديقًا؟ ومهما حاول الطرف الآخر الاحتمال والمجاملة في انتظار أن يقدّر هذا المتطفل حجم الإزعاج الذي يتسبب به فإنه سيكتشف في النهاية أنه يقوم بذلك عبثا، ودون فائدة.
إن أفراد هذا النموذج البشري يفرضون أنفسهم على غيرهم دون أن يشعروا بثقلهم، ودون أن يدور في خلدهم أنهم قد يكونون مصدر إزعاج للآخرين، ودون أن يظنوا ولو مجرد ظن أنهم قد يكونون أشخاصًا غير مرغوب فيهم. ويمكن أن نلتمس لهم العذر في ذلك في حالة واحدة: إن لم تصلهم من الطرف الآخر أية إشارة تقول لهم ـ تصريحا أو تلميحا ـ أنهم يضيقون بهم.
أما إذا كانت كل تصرفات الطرف الآخر معهم تحمل معاني الضيق والضجر منهم ومن حضورهم الدائم دون هدف أو فائدة، ودون مبرر مقبول، فلا عذر لهم في استمرار فرض أنفسهم. ومع هذا ستظل المشكلة الكبرى مع أفراد هذه الفئة متمثلة في عدم قدرة أي شخص أو جهة على إقناعهم بأن ما يفعلونه لا يصح، أو أن سلوكهم غير مقبول، ويظل إحساسهم بأنهم على حق مسيطرا عليهم، وموجها لجميع تصرفاتهم
sunono@yahoo.com
جامعة الإمارات