سيكون للعدوان الإسرائيلي على لبنان نتائج مهمة ونوعية تختلف عن نتائج أي عدوان سابق، ذلك لأنه أتى تتويجاً لظروف شبه ناضجة فأنضجها وستدخل نتائجه عاملاً حاسماً في رسم ملامح التطور المقبل ليس في لبنان وحده وإنما في المنطقة العربية كلها، وأفرز العدوان منذ أسابيعه الأولى بعض الاستنتاجات التي لم تكن لتصل إلى درجة اليقين قبل ذلك وجعلها من البديهيات التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار.

لقد أكد العدوان الإسرائيلي على لبنان تهافت النظام العربي الحالي الذي لم يعد يصلح للصمود في وجه التطورات والمستجدات في عالمنا، فهذا النظام الذي أسس عام 1945 مع تأسيس جامعة الدول العربية، ونتج عنه منظمات عربية مشتركة واتفاقيات دفاع مشترك ومؤسسات اقتصادية وعلمية وثقافية وصحية مشتركة وكاد يصل لبناء أساس صالح لمرحلة جديدة متطورة من التضامن العربي انتكس واستسلم وفقد الوعي بعد أن تلقى الضربة الأولى من اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية

ثم تلاها غزو العراق للكويت وتبعاته ووقف عاجزاً في الحالتين ثم أكملت عليه المجازر الإسرائيلية في فلسطين بعد الانتفاضة الثانية ودفنه الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وفي النهاية لم يعد هذا النظام موجوداً وأصبحت البلدان العربية بدون نظام يجمعها، تتصرف فرادى وتهتم بالعلاقات والتحالفات البينية مع دول غير عربية وخاصة مع الولايات المتحدة وصارت اجتماعات الجامعة والاجتماعات واللقاءات العربية عامة مجرد لغو لا هدف لها ولا جدوى منها،

وجاء العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان ليسقط ورقة التوت وليثبت بلا جدال أن كل دولة عربية تغني على ليلاها وما من أغنية مشتركة بين هذه الدول، فكل يبحث عن مصالحه القطرية ولايضع في اعتباره غيرها ويتسابق لرضى الأميركان، وتلاشى كل أمل بتطوير النظام العربي القائم وأصبح العرب بلا رابط رسمي يجمعهم ويلملم إمكانياتهم ويؤهلهم للدفاع عن مصالحهم.

وأكد العدوان الإسرائيلي على لبنان أن العدو الصهيوني لا يريد أي سلام، ومازال يتصرف كعدو غاز طامع في الأرض وماعلى الأرض، وأن شعارات التسوية والتعايش والعيش المشترك هي شعارات كاذبة وخادعة وملهاة للعرب لا أساس لها في حيز الواقع، وعليه فإن السلام العربي الإسرائيلي بعيد المنال في الشروط القائمة وإن عملية السلام برمتها توفيت بعد نزاع طويل فكيف يمكن أن تتحقق التسوية دون الاعتراف بحقوق شعب فلسطين،

ومن قال إن إسرائيل ستنسحب إلى حدود 1967 وتتخلى عن القدس وتفكك المستوطنات وتقبل بعودة اللاجئين وتنسحب من الجولان، وهي بمثل هذه العنصرية والغطرسة والصلف والوحشية والعربدة، وأي سلام سيزيل الأحقاد التي راكمها العدو الصهيوني ومازال يراكمها، لقد أثبت العدوان على لبنان واقعياً أن إسرائيل لاتريد السلام ولا التسوية ولا التعايش وأنها مصرة على أيديولوجيتها الصهيونية وعنصريتها فلماذا يضحك سياسيونا علينا ويخدعوننا بل ربما يخدعون أنفسهم بأن رهانهم على السلام قابل للتحقيق.

كان الكثيرون يعتقدون قبل العدوان أن السياسة الأميركية هي سياسة شاملة ذات رؤيا بعيدة وتعتمد على استنتاجات مراكز الدراسات والبحوث، ومع أن أحداً لم يكن يتوهم أنها إنما تخدم مصالحها ولا تأخذ العدل والحق والموقف الأخلاقي والقانون الدولي باعتبارها، إلا أن كثيرين كانوا يرون أن ظروف العالم بعد الحرب الباردة ستجعل رؤيتهم أشمل وأكثر واقعية وصدقية،

وقد ثبت لكل ذي عقل بعد أن رأينا ولمسنا الممارسات السياسية الأميركية في العراق وتجاه فلسطين وأخيراً تجاه العدوان على لبنان أن هذه السياسة ساذجة عمياء متطرفة لا ترى ولا تسمع وتتعارض حتى مع مصالح الأميركيين أنفسهم. لقد طرحت هذه السياسة إقامة الشرق الأوسط الكبير على أن يضم دولاً ديمقراطية تتعاون في مختلف المجالات بعد أن تسوى المشاكل والخلافات والتباينات في المنطقة وبعد أن تطلق العنان للفوضى الخلاقة

وقالت إن هذا الاحتلال يشكل الخطوة الأولى نحو تحقيق الشرق الأوسط الكبير فصار العراق بعد احتلاله النموذج الأسوأ لأي حكم وليس لأية ديمقراطية فقط: حروب وعنف وضحايا وطوائف وعشائر ونهب الأموال العامة وغيرها، ثم أعلمتنا وزيرة الخارجية الأميركية بأن العدوان الإسرائيلي على لبنان هو الخطوة الثانية في إقامة الشرق الأوسط (الجديد هذه المرة)

فتم تدمير لبنان وإعادته عشرات السنين إلى الوراء، ورفضت السياسة الأميركية وقف إطلاق النار ومنعت مجلس الأمن من الإشارة إليه، وهكذا كان العدوان الإسرائيلي القشة التي قصمت ظهر البعير والدليل القاطع على أن أي رهان على الإدارة الأميركية هو قبض الريح.

لقد طفت على السطح التباينات إن لم يكن التناقضات (بل القطيعة) بين معظم الحكومات (والأنظمة السياسية) العربية وبين شعوبها جراء الموقف من العدوان، فالأولى تريد الاستمرار في السلطة والحكم فقط دون أهداف تزعج سلطاتها ودون مهمات قومية أو غير قومية قد تكون محفوفة بالمخاطر ودون ممارسات لا ترضى عنها الإدارة الأميركية، والثانية مازالت تحمل الهم العام وتنوء تحت أعبائه ومستعدة لأية تضحية لأجله،

ومن البديهي حسب علماء السياسة والاجتماع أن هذا التناقض لن يبقى ساكناً إلى أبد الآبدين، وعلى ذلك فإن الأنظمة مطالبة إن أرادت الاستمرار أن تعقد صلات جديدة مع شعوبها تستند على توافقات وطنية جديدة عمادها الحرية والديمقراطية والتصالح والتشاور واحترام تمثيل الناس وآرائهم، ولم يعد إهمال رأي الناس والاستبداد والقمع وتجاهل مصالح المجتمع وأهدافه الوطنية ممكناً بعد الآن، وإن وجد حكماء في أنظمتنا فعليهم تدبر الأمر قبل أن تصل القطيعة إلى نهاياتها.

ومن طرف آخر أدركت الشعوب العربية أن هناك وسائل أخرى يمكن من خلالها مواجهة العدو وهي ليست بالضرورة إرهاباً بل مقاومة حقيقية جدية قادرة شأن كل حركات المقاومة، وإن الحروب الكلاسيكية والمحادثات الدبلوماسية ومجلس الأمن والمنظمات الدولية وغيرها ليست هي الوحيدة القادرة على استرجاع الحقوق خاصة إذا بقيت الهيمنة الأميركية على العالم قائمة.

أصبح بديهياً القول أن العرب بحاجة لنظام عربي جديد ينبغي أن يستعجلوا إقامته يضع سياسات داخلية جديدة ويفرض فهماً جديداً للسيادة وموقفاً مختلفاً من العدو الصهيوني والحقوق العربية التي تم التهاون بها، وعلاقات إقليمية صالحة لعصرنا بالإضافة إلى علاقات دولية مجدية وفعالة، وإن لم يتحقق ذلك فلا أحد يستطيع أن يتوقع التطورات الداخلية العربية المقبلة إن لم تكن التفجيرات الداخلية العربية المقبلة فعلاً.

مدير «مركز الحوار العربي» ـ واشنطن

alhewar@alhewar