بغداد ما حمل السرى منّي سوى شبح مريب جفلت له الصحراء والتفت الكثيب إلى الكثيب لا أظن ان اسما من أسماء المدن العربية الضاربة في عمق الذاكرة العربية المسلمة هو أكثر انغراساً بالروح وأكثر التصاقاً بالقلب كما هو اسم بغداد. لاشك ان في ذاكرة العربي المسلم وغير المسلم اسماء مدن عربية لا تغادر الذاكرة كدمشق وقرطبة وطنجة وحلب الشهباء وسواها. هذا باستثناء اوائل المدن العربية التي ارتبط ذكرها وصيتها بالدعوة الاسلامية وعلى رأسها مكة ثم المدينة المنورة ثم القدس فإن تلك الزهرات الثلاث لا مجال لمقارنتها بسواها من مدن التاريخ العربي حتى لو كانت بغداد ذاتها. ولكنني بعد تلك الزهرات الثلاث التي هي هن زهرات على ثغر التاريخ العربي الاسلامي اعتقد ان بغداد لها خصوصية لا تدانيها خصوصية، ذلك انها في اعتقادي العاصمة العربية الاولى برغم انها كانت الرابعة في ترتيب العواصم العربية الاسلامية الأُوَل المدينة فالكوفة ثم دمشق. إلا أن بغداد كانت الأولى من ناحية التفرد والتميز بنكهة خاصة في التاريخ العربي، ذلك انها كانت الأولى من ناحية انها بنيت بناء خاصاً لتكون عاصمة عربية جديدة وأنها الأولى من ناحية انها حديثة النشأة نشأت وكأنها باكورة الانتاج المدني العربي الاسلامي وهي الاولى في أنها الاكثر شهرة في الانتاج الادبي والعلمي والحضاري العربي الاسلامي لانها نشأت في عهد اكثر استقراراً والتفاتاً الى البناء والابداع مما سبقها. هذا بالاضافة الى ما لبغداد من وقع على النفس يوحي دائماً بالخيال والجمال والبهاء والازدهار العربي الاسلامي على ما فيه من بعض هنات وفتن وخلافات عقدية وفكرية تنغص صفو الذاكرة العربية المسلمة اذا تداعت اليها بغداد، كل ذلك جعل من بغداد اسم علم لا ينسى لكل عربي حتى وان لم يكن مسلماً فكل عربي صادق يعلم ان العروبة لا سياج لها الا الاسلام ولا عز لها الا بالاسلام وكل مسلم حق يعلم ان الاسلام عربي المادة والفكر والعلم والا عاد غريباً كما بدأ. ومن اولئك العرب غير المسلمين الذين عرفوا لبغداد مقدارها واستشعروا وقعها في الروح شاعر الشام بشارة الخوري الاخطل الصغير ولقد ظهر ذلك واضحاً جميلاً في قصيدته التي لا يغيب عن ذاكرتي بعض ابيات فيها جاءت في معرض سياق قصيدته التي كتبها في عهده الى صديقه الشاعر العراقي الكبير «الزهاوي» ولقد كان بشارة الخوري الاخطل الصغير على ما يبدو بحسن الظن ويتعلق تعلق كل عربي بحاضرة الاسلام والعرب بغداد ظاناً انها ستعود الى سابق عهدها من المجد والعز كما كانت على عهد الرشيد لا يدري بما ستؤول اليه في عصرنا الحاضر. لذلك قال مما قال يخاطب بغداد: قولي لشمسك لا تغيبي وتكبدي فلك القلوب بغداد يا وطن الجهاد ومرضع الأدب الخصيب غناك دجلة والفرات قصائد الزمن العجيب رقصت قوافيها على نغم البشائر والحروب حتى إذا طلع الرشيد وماج في الأفق الرحيب صهر القرون وصاغها تاجا لمفرقك الحبيب الى ان قال ابياته التي ألوذ بها كما ألوذ بالصحراء كلما ضاقت على أمثالي شوارع مدن الاسمنت وغابات الحديد والالمنيوم ودروب الاسفلت السوداء، وانني لألوذ بأبيات الأخطل من قصيدته الغراء تلك لما فيها من أنين شاعر عربي عزيز نفس يعرف للصحراء العربية مبعث المجد العربي الاسلامي حقها حتى حد الاندماج بتفاصيل كثبانها واشباحها ورموزها بل حتى جنادبها الصغيرة وبريح الصبا فيها. فقال وقد تعجبت منه جنادب الصحراء وكثبانها ويرتدي هذا الزي الافرنجي وهو العربي الخالص المعتز بعروبته: بغداد ما حمل السرى منّي سوى شبح مريب جفلت له الصحراء والتفت الكثيب الى الكثيب وتنصتت زمر الجنادب من فويهات الثقوب يتساءلون وقد رأوْا قيس الملوح في شحوبي والتّمتمات على الشفاه مضرجات بالنسيب تبكي لها قبل الصبا ويذوب فيها كل طيب يتساءلون: من الفتى العربي في الزي الغريب؟ Salzomr@hotmail.com