بالنهاية وقبل أن يدهمه الوقت، اختار الرئيس الأميركي باراك أوباما اللحظة المناسبة لإنارة الضوء في نهاية نفق صداع أميركا الأفغاني. بتوقيعه مؤخراً مع نظيره كرزاي في كابول، على «اتفاقية الشراكة الاستراتيجية» بين بلديهما، رسم بصيغة موثّقة هذا المسار، وبذلك طوى صفحة حربين خلال ولايته الأولى. بات بإمكانه إضافة هذا الإنجاز إلى رصيده الخارجي، الجيّد لدى الأميركيين، وبما يزيد من تلميع صورته الانتخابية، مقارنة مع خصمه الجمهوري ميت رومني بخبرته ورؤيته البائستين في الشؤون الدولية. ولو أن السياسة الخارجية ليس لها عادة وفي هذه الانتخابات بالذات، حضورها الوازن في حسم خيارات الناخبين.
فهذه الاتفاقية استراتيجية بقدر ما هي مخرج يحفظ ماء الوجه، للانسحاب الأميركي من أفغانستان. وليست أكثر من ذلك. ومن هنا أخذت عنوان «الشراكة» وليس «العلاقة» الاستراتيجية. فهي محدودة بمدة عشر سنوات، يشترك بموجبها الجانبان في تحمّل أعباء ما بعد الخروج: كابول تقوم بالدور الميداني وواشنطن تتولى مع «الناتو» تقديم العون والدعم المالي والتدريبي والجوي، إلى جانب الإبقاء على قوات خاصة «في ثكنات أفغانية وليس في قواعد خاصة بها»، لمدة عشر سنوات.
بيت القصيد تقول واشنطن، ألا تستولي طالبان على الحكم ربما تشارك فيه بالتوافق مع كابول، كي لا تعود «القاعدة» وتعيد العمل من أفغانستان وتتخذها قاعدة لها. وهي بمثابة مقايضة اضطرارية، فالديمقراطية التي وعدت واشنطن بها، ليس لها خبز في تلك الأرض وحتى إشعار آخر. تأخرت واشنطن حتى فهمت هذه القاعدة وسلّمت بأن العملية الديمقراطية نبتة محلية، لا تنمو إلاّ بعناية أصحابها. درس خبرته في العراق.
منذ حملته الانتخابية، وعد أوباما 2008 بالانسحاب وقفل باب الحروب. ترك العراق في الموعد المحدّد. لكن بصورة ملتبسة. أفغانستان كانت وما زالت أخطر وأكثر تعقيداً. ضعف حكومة كابول وأعطالها المعروفة، يهدّد بعودة طالبان، وبالتالي «القاعدة». فشلت واشنطن في كسب تعاون باكستان، الحليف الصعب الذي لا غنى عن مساعدته في أفغانستان. فكان البديل في التصعيد. سمع أوباما لجنرالاته ووافق أواخر 2009 على زجّ ثلاثين ألف جندي إضافي في الساحة ولمدة سنة ونصف. مضت الفترة، وتعذّر سحب هذه القوة في الموعد. لم يتحقق التقدم المطلوب بالرغم من بعض النجاحات الموضعية. تعزّزت القناعة لدى معظم الأوساط المعنية في واشنطن بأن الحسم العسكري في أفغانستان أقرب إلى الوهم.
ثم بدأت تتسرب التلميحات حول سعي الإدارة لمدّ جسور الحوار مع «عناصر معتدلة من طالبان». إلى أن انكشف أمر الاتصالات الأولى التي جرت في ألمانيا وأخيراً في قطر. لكن سرعان ما تعثرت، وبالنهاية انقطعت من جانب طالبان. جرت أحداث على الحدود الباكستانية وتجاوزات واستفزازات بشعة بحق الأفغان، ساهمت في تعطيل الحوار. ويقال إن إسلام أباد لعبت في وقف الحوارين وساهمت بذلك عن طريق نفوذها لدى طالبان. في هذا الوقت، هجمت انتخابات الرئاسة. ضاقت مساحة الوقت أمام أوباما. فلجأت الإدارة إلى تسريع المفاوضات الجارية منذ عشرين شهراً، لصياغة الاتفاقية الغطاء التي تمّ التوصل إليها، والتي قام الرئيس بزيارة ليلية خاطفة إلى كابول للتوقيع عليها.
لاقت الاتفاقية الترحيب عموماً في واشنطن، باستثناء المحافظين المهووسين بـ «النصر التام». فأي صيغة تشق طريق الانسحاب من هذه الحرب المفتوحة المكلفة، أكثر من 100 مليار دولار سنوياً، تحظى بالتأييد والارتياح في أميركا. لكن هناك أسئلة وعلامات استفهام كثيرة مطروحة في واشنطن: هل تكون القوات الأفغانية، العسكرية والأمنية، جاهزة للقيام بالمهمة بمفردها عام 2014؟ هل تقوى حكومة كابول على التماسك وتكون قادرة على النهوض بالدور القيادي الفعّال بعد الانسحاب؟ كيف ستتعامل باكستان مع الواقع الأفغاني الجديد؟
أسئلة برسم المستقبل. الترجيحات لدى المتابعين للشأن الأفغاني، أن القوات الأميركية في طريقها إلى المغادرة في الوقت المحدد، 30 ألفاً في سبتمبر المقبل، والباقي، ما عدا قوات خاصة، بحلول 2014، تماماً كما جرى في العراق، «من دون إعلان النصر ولا الإقرار بالهزيمة» على حدّ تعبير أحد المحللين. حالة يبقى معها الجرح الداخلي نازفاً.
اعتمدت واشنطن سياسة التجربة والخطأ في أفغانستان. ما كانت لديها مقاربة محدّدة، كما يقول الخبير الاستراتيجي أنطوني كوردسمان. الاتفاقية تندرج في هذه الخانة. ربما تكون واعدة. ليس للخلاص، بل للانسحاب. وقف النزيف الأفغاني من الصعب أن يتحقق عن غير طرق الحوار الداخلي والإقليمي معاً، كما يؤكد الخبراء الاستراتيجيون.
