يدرك الجميع في أوروبا أن اليورو في ورطة عميقة، لكن قلة من الناس في القارة ترى العودة إلى الوراء أمراً مرغوباً به أو ممكناً. لكن مع كل أزمة جديدة ترتعد لها الفرائص في اليورو، يتضح لمواطني منطقة اليورو أن استفادتهم من وهم بناء الدولة ليست مضمونة. فاليورو الذي يمثل أهم رمز لاتحادهم المستقبلي، هو الذي يقوم بكل ما في وسعه لتفريقهم عن بعضهم.

حين يتكلم كروجمان

وكان الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل بول كروغمان قد قال لصحيفة "فايننشال تايمز": "اليورو بحد ذاته أوجد الصدمات غير المتماثلة التي تقوم بتدميره الآن".

ومهندسو السياسة في أوروبا أوجدوا منطقة اليورو اعتقاداً منهم بأن تأثيرها سيكون ضئيلاً جداً، بمعنى أنه، ما أن يبدأ مواطنوها في الشعور أكثر كمواطنين في كيان واحد، حتى يتحول سلوكهم تدريجياً وباضطراد نحو المزيد من التقارب والالتقاء. والعملة الموحدة سوف تجلب كل الدول الـ17 نحو أرض التكامل الكامل الموعودة.

وكما يشير كروغمان، فقد حدث عكس ذلك في أوروبا. بالنسبة للألمان، كان التخلي عن المارك وتبني اليورو بمثابة تخفيض مجدي لقيمة العملة، حيث أدى إلى خفض سعر صادراتهم، الأمر الذي جعلهم اكثر تنافسية في الصين وغيرها، وعزز موقعهم باعتبارهم اقتصاد أوروبا المهيمن، بأكثر من ضعفي حصة فرنسا من سوق الصادرات العالمي.

لكن بالنسبة للاقتصادات الأضعف، بما في ذلك عمالقة نسبيا، مثل إيطاليا وإسبانيا، فان التأثير كان في رفع لقيمة العملة بشكل غير مجد إطلاقا. وبعد أن أصبحتا محبوستين في العملة الموحدة، دون أي إمكانية لخفضها، فان النساجين الإيطاليين ومزارعي الفاكهة اليونانيين والمدن الايرلندية التي أقنعت شركات سيليكون فالي ببناء مصانع في إيرلندا، كل هؤلاء وجدوا انفسهم وقد تقطعت بهم السبل من دون مساعدة أو أمل في الشفاء. فاليورو وضعهم جميعاً خارج السوق بحكم ارتفاع أسعار منتجاتهم، والنتيجة كانت الأزمة الطويلة التي يمر بها الاتحاد الأوروبي.

لسنوات عدة، كان النقاد خارج منطقة اليورو يتوقعون زوال المنطقة الحتمي، للأسباب الموضحة أعلاه: كان الهدف من اليورو أن يشكل آلية جذب نحو المركز، لكن تأثيره في الممارسة العملية كان نابذا للمركز. وفي الأشهر الأخيرة، مع قيام الأزمة اليونانية بتقزيم كل ما جاء قبلها من أزمات، فان فكرة احتمال خروج اليونان من اليورو فعلا، تجري مناقشتها في القارة أخيرا.

أوروبا مختلفة

كانت أوروبا طريقاً باتجاه واحد منذ أن تحدث ونستون تشرتشل في عام 1946 عن بناء نوع من "الولايات المتحدة الأوروبية"، بعدها بأربع سنوات اقترح الفرنسي روبرت شومان إقامة الجماعة الأوروبية للفحم والصلب.

 ومثل هؤلاء الرجال رأوا، بعد حربين عالميتين، الضرورة المطلقة للوحدة الأوروبية وليس مجرد الرغبة بها، وحدهم الفاشيون الجدد فقط وغيرهم من المخبولين كانوا من التهور بحيث يحلمون أحلاما مغايرة.

وعندما رفضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تفعل اكثر مما فعلته لإعادة رسملة المصارف في دول مثل إسبانيا واليونان، خوفا من التأثير المحتمل على التضخم وفواتير الضرائب في ألمانيا، منح ذلك المتطرفين الذين يحلمون بإنهاء المشروع الأوروبي مساحة سياسية جديدة. لكن أخيرا، ربما خوفا من احتمال يزداد ترجيحا من تدافع لا يمكن السيطرة عليه على المصارف اليونانية وربما المصارف الأخرى، أظهرت ميركل إشارات تغيير في نغمتها.

وقد يعني موقفها المتساهل إنقاذ مصارف إسبانيا دون الاستيلاء المؤلم والمذل على الاقتصاد من قبل مؤسسات دولية، وهو الأمر الذي عانت منه إيرلندا واليونان والبرتغال. وفي غضون ذلك، بدأت ميركل مجدداً تنشد تعويذة التكامل الأوروبي، وقالت مستشرفة آفاق القمة الأوروبية التي ستنعقد قريبا في بروكسل: "لا نحتاج إلى العملة الموحدة فقط، بل إلى ما يطلق عليه الاتحاد المالي، وسياسات ميزانية موحدة بدرجة اكبر. ونحتاج اكثر من كل شيء إلى الوحدة السياسية، وهذا يعني انه يجب أن نمضي قدما في التخلي لأوروبا عن السلطات خطوة خطوة مع سير الأمور تباعا".

كل شيء جرى ترديده في السابق، لكن الخلفية كانت مختلفة قطعا. والمستشارة الألمانية باعتبارها زعيمة الدولة الوحيدة القادرة ماليا على التعامل مع الأزمة الأوروبية، اتهمت مرارا بالجمود، وبأنها فعلت القليل وبشكل متأخر لتفادي الكارثة. لكن مجلة "إيكونومست" أفادت أخيرا أن ميركل في النهاية عادت إلى تبني إجراءات عدة كانت قد عارضتها في البداية.

لكن لن يكون الالتزام المتزايد لألمانيا على مضض ولا إعادة طرح ميركل من جديد للحلم الأوروبي الملطخ كافيين لإقناع الناخبين اليونانيين، الذي سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع مجددا بالعودة إلى الصراط المستقيم.

إن العجز الديمقراطي لأوروبا يبدو أكثر إدهاشا الأن اكثر من أي وقت في تاريخها، كما تبدو بروكسل اكثر بعدا عن برلمانات الحكومات الوطنية الـ17 لمنطقة اليورو من أي وقت مضى، وتبقى فرص دمج ثقافات سياسية على هذا القدر من الاختلاف، من اليونان إلى إيطاليا وإسبانيا، في إطار فعال بما يكفي لإرضاء ألمانيا، أضغاث أحلام كما كانت دوما.

ومع ذلك، فان خطاب ميركل الجديد القديم، أخيرا، قد يكون إشارة إلى إدراك ألمانيا أنه إذا كان هناك من شيء سيبقي الأسواق بعيدة عن تمزيق اليورو إلى أشلاء، فإنه يتمثل بالعرض المقنع بالتزام ألمانيا بهذا المشروع، كما قد يكون إشارة أيضا بأن ألمانيا تدرك ما سوف يسببه دمار اليورو من خراب لأوروبا وللمصدرين الألمان.

بالنسبة لاقتصاد أوروبا المأزوم، فإن كون هذا الاقتصاد مستعدا للامتثال لرغبة بروكسل يعد افضل من أن يكون تحت رحمة مدراء صناديق التحوط الأجانب، والانحراف نحو نوع من مستقبل كما يتصوره النازيون الجدد هو مصير يستحق بلا شك تفاديه.

آلية الاستقرار

 

يقول أحد مراسلي الصحف في برلين إنه: "بحلول يوليو المقبل، ستدفع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عبر البرلمان بآلية الاستقرار الأوروبي، وهو الصندوق الدائم الذي كانت قد رفضته في الماضي".

وإذا تم إقراض كل الأموال وتعثر الجميع في السداد، فان "المسؤولية المحتملة على كاهل ألمانيا قد تكون في حدود 280 مليار يورو". وفي المقابل، فإن ميركل تطلب من شركائها الأوروبيين إعادة تأكيد التزامهم بالمشروع الكبير الذي يشدهم سويا.