نعيش اليوم عصر الديمقراطية. فالشعوب في ثلثي دول العالم تختار حكامها عبر انتخابات عامة حرة، وتخلعهم أيضاً، وهو ما أثبتته كل من فرنسا واليونان، أخيراً. وبمجرد أن تبلغ دولة ما مستوى معيناً من الثروة والنضج، تبدو الديمقراطية مقبلة في الأفق، غالباً من خلال صراع، ولكنها أمر حتمي تقريباً. وحتى العالم العربي، الذي ظلّ لفترة طويلة بقعة جوفاء على خارطة الديمقراطية، آخذ في الاستسلام لنداء الديمقراطية.

وبعد ذلك، تأتي روسيا. فقد بدت عودة فلاديمير بوتين رئيساً لروسيا، أخيراً، كما لو أن باب سجن قد أحكم إغلاقه.

بديل بائس

وعلى امتداد السنوات الأربع الماضية، قدم ديمتري ميدفيديف، وهو البديل البائس لبوتين، على الأقل، رؤية أكثر ليبرالية لروسيا، من خلال انتخابات نزيهة وسلطات غير فاسدة وسيادة للقانون وصحافة حرّة. ومع دخول العام الجديد واجه العديد من الروس العاديين شبح عودة بوتين إلى سدة الحكم مجدداً، حيث خرجوا بأعداد غفيرة إلى الشوارع مطالبين بهذه الأشياء الطيبة. وباختصار، بدا أننا على أعتاب "ربيع روسي".

يبدو الأمر كأن زمناً طويلاً قد مرّ منذ إعادة انتخاب بوتين في مارس الماضي. فقد تم تزوير الانتخابات كالعادة، لكن عدداً غير قليل من الروس لا يزالون يرون في الرئيس الروسي الجديد محقق النظام والنمو الاقتصادي والعزة القومية لكي تكون إعادة انتخابه أمراً مقنعاً. وعلى الرغم من أن هناك خلفية للمظاهرات تتمثل بالاعتراض على حفل تنصيبه المتسم بالبذخ، فإن أعداد المتظاهرين كانت أقل بكثير، وكان تعامل الشرطة معهم يتسم بالقسوة الشديدة.

من الناحية الظاهرية، فإننا نعود إلى روسيا التي تعتبر المعارضة فيها بأنها قلة مطاردة، بينما يسود فيها مجدداً نظام بوتين الأوليغارشي والمدعوم من قبل وسائل الإعلام الموجّهة.

صورة خاطئة

تلك هي صورة محتملة، لكنها خاطئة. لقد تغيرت روسيا. فلم يعد النظام القديم حصيناً. فالبعض الآن متحمس في مطلبه بإبداء الرأي في الطريقة التي يدار بها بلدهم. وانهارت الديمقراطية المزيفة التي أخفت وراءها الطريقة التي تعمل بها روسيا فعلياً. وأصبح حزب "روسيا الموحدة" الحاكم (وهو حزب المزورين واللصوص) موضع احتقار عام. ومن ثمّ فقد بدأت جماعات المعارضة، التي ظلت حتى الآن مدجنة، تكشف عن أنيابها، فقامت على سبيل المثال بمقاطعة الخطاب الأخير الذي ألقاه بوتين أمام البرلمان.

وعلى أحد المستويات حيث لا تزال الديمقراطية تعمل، وهو مستوى حكام المدن، ظفرت المعارضة بسلسلة من المنافسات. واضطرت السلطات إلى القبول بنظام انتخابي أكثر انفتاحاً، وبالمزيد من التصويت على مستوى الأقاليم. والإعلام الرسمي، الذي تخلف على نحو متزايد عن ركب الإنترنت المتسم بالحرية وعدم الاكتراث بشكل كامل يعلم أنه لا بد أن يخبر بالحقيقة.

ولا تزال حالتا الارتباك والحقارة من جانب الأجهزة الرسمية تشكلان وقوداً غزيراً يؤجج الغضب العام، وأحدث الحالات ما جرى في عمليات وحشية في مدينة كازان بإقليم تتارستان الروسي، حيث أشارت تقارير إلى مقتل رجل إثر تعرضه للاغتصاب على يد أفراد الشرطة. وفي النهاية، يمكن أن يـُظهر أعضاء النخبة أن سلطة بوتين بدأت تتهاوى.

وشهدت الشهور الأخيرة سلسلة من التقليصات شبه العامة فيما بينهم، حيث سرت شائعات بأن إيغور سيشين سيستبعد من منصبه نائباً لرئيس الوزراء، والتسريبات المثيرة للحرج عبر إحدى المدونات بشأن تمويلات حصل عليها إيغور شوفالوف، وهو نائب آخر لرئيس الوزراء الروسي. تلك مجموعة من التسريبات التي تتقاسم بشكل طبيعي انهماك المافيا بالولاء والصمت المتبادل للأسباب نفسها وهي: عندما تتكشف الأسرار، يتعرض كل شيء للدمار.

إن بوتين لن يخفّف قبضته على السلطة طواعية. ومن يشغلون المناصب العليا لديهم الكثير مما يمكن أن يخسروه. فالصورة المشينة التي ظهر بها الرئيس المصري السابق حسني مبارك، الذي يخضع للمحاكمة الآن بتهم فساد، تشير بشكل مثير إلى القلق مما قد يحدث لو أن الديمقراطية سادت في روسيا. سر التنازلات

 

يؤمن بوتين بقوة بأن روسيا ليست مستعدة بعد لحكم الشعب، وأن المحتجين المطالبين بالديمقراطية خرجوا مدفوعين بأعداء روسيا من الغرب. وهو لديه جهاز أمني بارع رهن إشارته، فضلاً عن المؤيدين المخلصين له من القوميين وطبقة الأثرياء الأقل عدداً. ومع تزايد الضغوط، فعلى الأرجح سيضطر النظام إلى الاستجابة للمطالبات من أجل المواطنة، وللتحذيرات القاتمة بتربص "قوى خارجية".

سيشكل ذلك جانباً قاسياً على المعارضين الروس الشجعان، وهم الذين ينظر إليهم فعلياً على أنهم أفضل من الخونة قليلاً، فضلاً عن كونه عنصراً ضاراً بعلاقات روسيا مع الغرب. بيد أن بوتين يمتلك عقلية استخباراتية. فهو يعلم أن القمع وحده لن يعيد المصداقية إلى نظامه، ومن هذا المنطلق جاءت التنازلات التي قدمها.