لايزال التوتر مخيماً والحرب تدور رحاها، فالخرطوم وجوبا وحتى قبل انفصالهما ظلا متشاكسين على الدوام، لكن التشاكس داخل الحكومة الواحدة استبدل صراعاً عنيفاً لكن في ظل حكومتين جارتين، إذ مثّل دخول قوات الجنوب منطقة هجليج النفطية منعرجاً في علاقتهما المتوترة أصلاً، فجوبا بدت غير آبهة بدعوات المجتمع الدولي الانسحاب من المنطقة.

فبعد عقود من الصراع المسلح والحرب الضروس بين شمال السودان وجنوبه، أنهى اتفاق سلام وقع في ضاحية نيفاشا في كينيا المجاورة برعاية ودعم دوليين، ممهداً الطريق لانفصال الشطرين فيما بعد، لكن الاتفاق المبرم أغفل أو تغافل عن حسم ملفات شائكة أبرزها الحدود والنفط.

ومنذ اختيار جنوب السودان الانفصال عن الشمال في يوليو 2011 ، ظلّت المناوشات والاتهامات المتبادلة، ديدن العلاقة بين «الإخوة الأعداء»، كان آخرها الأزمة التي تفجرت بعد دخول قوات الجنوب منطقة هجليج الغنية بالنفط والتي تمد السودان بنصف إنتاجه من النفط.

ولعل ما زاد الموقف تعقيداً اشتراط الجنوب خروج قوات الشمال من منطقة أبيي المتنازع عليها ونشر قوات دولية، للانسحاب من هجليج، أمر أثار غضب الخرطوم التي أعلنت التعبئة العامة وسيرت جيوشها نحو المنطقة لتحريرها وإعلانه صراحة هذه المرة حكومة الجنوب «عدوّا».

 

التفاف على المطالب

وفيما اتسعت رقعة المواجهات العسكرية بين الدولتين، يرى مراقبون للشأن السوداني، أن «الإدانات الدولية لجنوب السودان من مجلس الأمن الدولي والإتحاد الأفريقي والجامعة العربية والإتحاد الأوروبي، اتخذت منحًى واحدًا تمثلت في مطالبة الجنوب سحب قواته من منطقة هجليج»، مشيرين إلى أن «جوبا قابلت المطالب الدولية بــ «الالتفاف» عليها وتأكيدها عدم سحب القوات إلا وفق شروط تتمثل في نشر الأمم المتحدة قوات في منطقة أبيي»، لافتين إلى أن «الموقف ازداد تعقيداً برفض الخرطوم الأمر جملة وتفصيلا وأن المنطقة تتبع للشمال».

وأشار المراقبون في الوقت نفسه، إلى أن الخرطوم تسير في اتجاه استعادة المنطقة عسكرياً، مستدلين بتصريحات وزير الإعلام السوداني عبد الله مسار بأن الجيش السوداني اقترب من دخول هجليج من عدة جبهات، وتأكيده أن استعادة المنطقة سيتم في غضون ساعات، معربين عن خشيتهم من استهداف قوات الجنوب آبار النفط حال اضطرارها الانسحاب من المنطقة.

وقال المراقبون: «إن ما يلفت الانتباه أن ردة فعل الشمال المصرة على استعادة المنطقة، قابلها إصرار وتهديد متنام من قبل الجنوب، مع الحشد غير المسبوق وإعلان حالة التعبئة العامة ضد الخرطوم عبر مظاهرات تأييد واسعة من سكان الجنوب إلى حد تهديد رئيس الجنوب سلفاكير ميارديت، نية قواته التقدم إلى منطقة «أبيي»، حال لم تخرج منها قوات الخرطوم، فضلاً عن ربط وزير الإعلام بدولة الجنوب برنابا ماريال بنيامين انسحاب قوات بلاده من «هجليج»، بوقف السودان كل هجماته الجوية والبرية، وانسحاب القوات السودانية من أبيي، ونشر مراقبين دوليين على طول المناطق المتنازع عليها ، إلى حين التوصل إلى اتفاق على ترسيم الحدود».

 

رواسب الماضي

ويرى الكاتب المتخصص في الشأن السوداني زين العابدين أحمد أن «جوهر الصراع بين الشمال والجنوب مكمنه رواسب الماضي الأليم بين الطرفين عند ترسيم الحدود السودانية»، مؤكداً أن «هذه الرواسب ألقت بظلالها على واقع التعامل وأدت إلى هذا الواقع الدامي والذي غذّته الأجواء المشحونة بين الطرفين».

ويشير زين العابدين إلى أن «شهر يوليو من العام 1956 شهد تغييراً إدارياً في الحدود، إذ تراه حكومة الخرطوم غير ملزم ولا يؤخذ به في القانون الدولي، وأن اتفاق نيفاشا للسلام حدّد ترسيم الحدود كما هي عند الاستقلال عن بريطانيا، والواقعة إلى الشمال من الخط الحدودي الذي اتفق عليه في الأول من يناير 1956»، لافتاً إلى أن حكومة السودان تستند في قراءتها إلى تبعية المنطقة لوثيقة صادرة عام 1920 والتي لم تلغَ حتى إعلان الاستقلال.

ويؤكد زين العابدين أن «هناك خلافاً كذلك على المناطق المتنازع عليها، ففيما تقول الخرطوم إنها أربع فقط، ترى جوبا على لسان رئيس فريها المفاوض أن مناطق النزاع تبلغ سبعاً، داعيا في الوقت نفسه إلى التحكيم الدولي»، مشيراً إلى أن كرة الثلج آخذة في الكبر على خلفية اتهام الرئيس السوداني عمر البشير دولة الجنوب بتنفيذ مخطط خارجي لصالح جهات كانت تدعمها إبّان الحرب الأهلية، في إشارة موجهة إلى دول غربية وكذلك إسرائيل التي تربطها علاقة وطيدة مع جنوب السودان».

وفي الوقت الذي يذهب محللون سياسيون إلى أن «فكرة نشر مراقبين دوليين على طول المناطق المتنازع عليها بين دولتي السودان وفق ما تطالب جوبا إلى حين التوصل إلى اتفاق على ترسيم الحدود بوساطة الأمم المتحدة، مشيراً إلى صعوبة هذا الأمر على النفسية السودانية في الشمال، خصوصاً أن ترسيم هذه المناطق أقرتها اتفاقيات دولية وبموجبها تم الانفصال، في حين ترغب جوبا في العبث بأوراق الماضي ليس قبل الاستقلال في يناير العام 1956 لكن في تواريخ لاحقة غير معتد بها، سعيًا نحو تقويض الشمال الذي فقد نحو 75 في المئة من إنتاج النفط لصالح الدولة الوليدة.