وضعت الحرب أوزارها وهدأ أزيز المدافع الذي أودى بأرواح السودانيين في حرب تعتبر الأطول في التاريخ الإنساني عبر اتفاق سلام أدى إلى انفصال أنجب آخر دول العالم «دولة جنوب السودان». لكن هذا السلام لم يحقق الاستقرار المطلوب بعد، إذ ما زال شطرا السودان يتصارعان على النفط الذي ينتجه الجنوب ويتم تصديره عبر موانئ الشمال. حيث تنذر الأوضاع بالحرب، وما فاقم حدة الأزمة الاتهامات المتبادلة بين جوبا والخرطوم وهي عقدة استعصت حتى على المجتمع الدولي، إذ لم تجد مناشدات واشنطن ومن بعدها بكين، وتدخلات الاتحاد الإفريقي، في نزع فتيل الصراع المحتدم بين البلدين الجارين.
لكن صراع الطرفين لم يقف عند حدود التهديد بوقف إنتاج النفط من جانب جوبا واحتجاز الخرطوم ناقلات النفط الجنوبية عند موانئها فحسب، بل وصل تفاقم الأوضاع إلى التلويح بالحرب، إذ لم يستبعد الرئيس السوداني عمر البشير خيار الحرب، حال تم فرضها على بلاده. خيار يعد جديداً في أساليب التعامل مع ملف النفط، إذ لم يصرح به علانية من قيادتي البلدين. فرغم تأزم الموقف بين الخرطوم وجوبا، إلا أن الطرفين كنا متفقين وعلى غير العادة على أن «لا عودة للحرب» .
احتمال وارد
ولم يستبعد مراقبون للشأن السوداني استطلعت «البيان» آراؤهم احتمال عودة الحرب بين شطري السودان، في ظل ما أسموه «تعنت» مواقف دولة جنوب السودان حيال الملف، في حين يرى آخرون أن الأمور لن تصل إلى درجة الحرب وستظل حرباً كلامية وإعلامية فقط، في وقت اتهم مسؤولون جنوبيون الخرطوم بالسعي لإشعال الحرب ، بغية استغلال نفط الجنوب . ويضيف المراقبون أن «الأصوات التي حذرت قبيل انفصال الجنوب، من إرجاء حسم جميع المفات العالقة إلى ما بعد« الاستفتاء» كانت «محقة»، مشيرين إلى أن التفاوض في هذه الحالة، يخرج من سيطرة الدولة الواحدة، ليصبح صراعاً بين دولتين، أمر قد يرجع الأوضاع إلى «مربع الحرب» وهو الأمر الماثل الآن على حد قولهم .
عقلية العصابات
ولم يستبعد القانوني السوداني ونائب رئيس مجلس الولايات السوداني اسماعيل الحاج موسى في تصريحات لــ«البيان» عودة الحرب مرة أخرى، في ظل وجود من سماهم «متطرفي دولة جنوب السودان»، قائلاً إنه «إذا استمرت هذه الحماقات من قيادة الحركة فيصبح من الوارد جدا أن تعود الحرب مرة أخرى، السودان لن يبدأ هذه الحرب، لكنه سيخوضها حال تم فرضها عليه .
وأضاف الحاج موسى: «السودان عمل كثيراً من أجل السلام فقام الجنوبيون باحتلال أبيى وإشعال التمرد في جنوب كردفان والنيل الأزرق، قيادات الجنوب لم ترق بعد الى مستوى رجال الدولة، فما زالوا يتعاملون بعقلية العصابات، الوضع يدعو للتشاؤم في ظل هذه الاحتقانات من مغبة جر السودان إلى حرب هو لايريدها ولا يسعى اليها» .
وفى سؤال لــ «البيان» عن مغزى إصرار الجنوب على عودة الحرب على الرغم من أنه لا يزال متأثرا بها، قال الحاج موسى إن «الجنوب أحوج مايكون الآن للسلام وليس الحرب، خصوصاً أن الجنوب دولة وليدة ومؤسساتها لم تستقر بعد»، مشيراً إلى أن ما يزيد من تعقيد الأوضاع التحريض والضغط الكبيرين اللذين تتعرض لهما دولة الجنوب من «قوى خارجية» لزعزعة استقرار السودان.
حرب استغلال
من جهته، يرى زعيم الأغلبية في برلمان جنوب السودان اتيم قرنق في تصريحات لــ«البيان» أن«الخرطوم من يريد الحرب من أجل استغلال موارد الجنوب والبترول تحديدا، ومن ثم إعادة احتلال الجنوب»، مقللاً من اهمية تصريحات البشير بإمكانية العودة للحرب، قائلاً: «البشير مطلوب للجنائية وليس لديه مصداقية.. أؤكد لكم أن جنوب السودان لن يعود الى الحرب مرة أخرى، خرجنا من حرب استمرت 50 سنة، فلماذا نعود إليها مرة أخرى؟».
وحّمل قرنق الخرطوم مسؤولية نشوب حرب جديدة بين الشمال والجنوب، مشيراً إلى أن الخرطوم «تريد الاستيلاء على آبار البترول فى الجنوب وتعتزم أيضاً استخدام أبناء الجنوب المعارضين في الحرب ضد بلادهم»، على حد وصفه. وأكد قرنق أن حكومة الخرطوم لا تملك وسيلة لتوحيد أهل الشمال إلا عبر إشعال حرب مع الجنوب، مردفاً بالقول: «الخرطوم واهمة فهى تعتقد أن الجنوب دولة ضعيفة وجديدة ولذلك يسهل غزوها وهدم اقتصادها ، وتعتقد أيضاً أنها وعن طريق الحرب واحتلال الجنوب، تستطيع القضاء على مطالب النيل الأزرق وجنوب كردفان.
مقدمات حرب
اما الخبير الاستراتيجي اللواء العباس محمد الأمين، فيؤكد لــ«البيان» أن «هنالك أسباب كثيرة قد تؤدى إلى عودة الحرب مرة أخرى»، مطالباً طرفي النزاع بتفادي العودة للاحتراب، ومضيفاً أن «كل الأحداث التي تدور الآن هي مقدمات حرب مثل البترول، الحدود، التعنت والإصرار في عدم التوصل إلى اتفاق، البيانات والتصريحات المتطرفة، وهو ما قد يقود إلى عودة الحرب». ولفت إلى أن دولة جنوب السودان تسعى للحرب مع الشمال لخدمة مصلحتها في توحيد الجبهة الداخلية، ما يحتم وجود «عدو مشترك» يشغل الجميع.
مؤكداً أن «رفض الجنوب لمقترحات الوساطة خير دليل على أنه يبحث عن الأزمات»، مؤكداً أن دولة الجنوب لا تملك الآن وسائل هذه الحرب وأن دول الجوار الافريقي، ورغم معاداة بعضها للسودان، إلا أنها لن تتورط في مساندة هذا الخيار باعتبار أنه سيؤثر عليها وبشكل مباشر، لافتاً إلى أن السودان لن يعلن الحرب على الجنوب لانشغاله بالكثير من القضايا الداخلية الساخنة .
لا مقومات
من جهته، يشير القيادي الجنوبي المعارض لدولة جنوب السودان ديفيد ديشان إلى أن الحركة الشعبية لاتمتلك المقدرة لخوض حرب جديدة مع الشمال ، مردفاً بالقول إن «دولة جنوب السودان لا تمتلك جيشاً منظماً فالجيش الشعبي عبارة عن مليشيات ليس لديها ولاء إلا لنفسها وجيش كهذا لا يمكن أن يخوض حرباً» .
حرب مختلفة
ولم يستبعد عضو المؤتمر الشعبى كمال عمرالمحامى في تصريحات لــ«البيان»، عودة الحرب بين شمال السودان وجنوبه في ظل وجود المؤتمر الوطني على سدة الحكم بالشمال على حد قوله، مشيراً إلى «أن الحرب إذا عادت هذه المرة ستكون مختلفة عن السابق، لأن الجنوب أصبح دولة لها سيادة واستراتيجية ومجتمع دولي يتعامل معه مثل أميركا واسرائيل .
وقال عمر إن الحرب إذا نشبت فإن قضايا ما قبل الاستفتاء ستكون المسبب الرئيسي ، حاضاً حكومتي البلدين مراعاة «أن شعبي البلدين لم يكونا طرفا فى الاتفاقيات الموقعة وبالتالى لايحق الزج بهما فى أتون هذه الحروب».
حرب كلام
من جهته، استبعد الصحافي السوداني والمحلل فيصل محمد صالح في تصريحات لــ«البيان»، نشوب حرب بين الشمال والجنوب، مضيفاً «حرب الطرفين حرب كلامية وإعلامية ، وتساعد فى تفريغ الشحنات المتراكمة، لأن الذى يريد الحرب لايعلن عنها بهذا الشكل» .
كما أكد صالح «أن وضع البلدين لايسمح بهذه الحرب لأنهما فى ظروف اقتصادية سيئة تمنعهما من ابتدار أى حرب، والقوى الدولية المؤثرة كذلك لن تسمح بحرب فى هذه المرحلة، مشيراً إلى أن كل ما يمكن فعله هو تصعيد الحرب الدائرة الآن فى جنوب كردفان والنيل الأزرق وحرب دارفور.
أدراج الرياح
وبذلت القوى الإقليمية جهوداً جبارة لنزع فتيل الصراع بين جوبا والخرطوم، حول النفط إلا أنها جهود ذهبت أدراج الرياح، في ظل تعنت الخصمين، فما بذله «الاتحاد الافريقي» خلال آخر القمم التي عقدها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، من جهود بغية تقريب وجهات النظر كان كفيلاً بحل الأزمة .
وعلى الرغم من موافقة الرئيس السوداني عمر البشير على توقيع اتفاق إطاري مع جوبا، إلا أن رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت رفض التوقيع، ما حدا بالمفوض العام للاتحاد الافريقي جان بينغ، إصدار بيان ناشد فيه حكومتي الخرطوم وجوبا، العمل على إبقاء روح التعاون بينهما في مختلف المجالات، خاصة فيما يتعلق بالمباحثات الجارية حالياً حول البترول، في وقت طالب الاتحاد الإفريقي زعماء ووفود القارة الافريقية، المساعدة في إقناع طرفي النزاع، التوصل إلى اتفاق حول تصدير نفط جنوب السودان عبر موانئ السودان.
رسوم العبور
وحرصت حكومة الخرطوم وعقب عودة وفدها المفاوض على توضيح موقفها من القضية، إذ عقد وفد التفاوض مؤتمراً صحافياً، كشف وبالوثائق المبالغ المستحقة للخرطوم على جوبا نظير تصدير النفط عبر الشمال . وأوضح أعضاء الوفد أن «الحكومة استجابت لمعظم المقترحات التي قدمت من قبل الوساطة في الجولات السابقة، بما فيها المقترح الحالي، فضلاً عن تقديم الحكومة لكثير من بوادر حسن النية، وآخرها موافقة الرئيس عمر البشير على الإفراج عن بواخر للجنوب كانت محتجزة في ميناء بورتسودان، بغية التوصل إلى اتفاق وفتح الباب أمام تسوية نهائية مع دولة جنوب السودان، وتوقيع اتفاقية لعبور وتقديم الخدمات النفطية.
وأكد أعضاء الوفد الفنى السوداني أن «السعر الذى اقترحته الخرطوم نظير إنتفاع حكومة جنوب السودان، من البنيات التحتية في السودان معقول ومناسب قياساً إلى التجارب الإقليمية والدولية المشابهة»، لافتين إلى أن السعر يشمل رسوم العبور ورسوم التجميع والمعالجة المركزية ورسوم النقل، إلى جانب رسوم الانتفاع من الرصيف البحري، بما فى ذلك الإشراف على عمليات تأمين ومراقبة النفط من نقطة دخوله وحتى تحميله على السفن، كما تم تقديم عرض متكامل إحصائى وبيانى لشرح الآلية التي تم عبرها اقتراح السعر الذى تم تقديمه من قبل الخرطوم .
ويشير أعضاء الوفد الفني إلى «أن حكومة الخرطوم داومت على إرسال فواتير شهرية منذ يوليو 2011 لحكومة جنوب السودان لتسديد ما عليها، والقرار الأحادي المتعجل، الذي اتخذته حكومة جنوب السودان، والقاضي بوقف ضخ النفط دون أدنى اعتبار لعوامل كثيرة، يشير صراحة الى حجم المؤامرة التي تحاك لإلحاق أكبر ضرر باقتصاد السودان»، مشيرين إلى ان حكومة السودان ستظل منفتحة إلى حين التوصل إلى اتفاق حول الملف الشائك .
