يتحدث المؤلف في هذه الحلقة عن نجاح الرأسمالية في إلحاق الهزيمة بالنظام الشيوعي عبر استخدام تكتيكات ناجحة ومن خلال أخطاء ارتكبتها الأنظمة الشيوعية نفسها ويشرح الظروف التي رافقت انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي وانتهاء ما عرف بالحرب الباردة التي استمرت قرابة نصف قرن.

وقد أدى ذلك إلى بروز ما بات يعرف بالعولمة، حيث بات العالم قرية صغيرة تترابط أجزاؤه بعضها ببعض بعرى وثيقة وما يحدث في جزء منه يؤثر على الأجزاء الأخرى بفضل تطور وسائل الاتصال والنقل. ولم تعد هناك حاجة لتوفر مكان بمساحات واسعة من أجل إقامة مشروع اقتصادي ما، وبات بإمكان الشركات الكبرى أن تنقل نشاطها الإنتاجي ومصانعها إلى أي مكان في العالم تتوفر فيه المواد الأولية اللازمة للإنتاج والأيدي العاملة الرخيصة طالما أن هذا المكان مزود ببنية تحتية حديثة تتيح التواصل الإلكتروني عبر الحدود. واللافت في التطور التكنولوجي الذي يرصده المؤلف هو أن ثورة الحواسيب فتحت المجال أمام دخول المؤسسات الصغيرة إلى دنيا المال والأعمال التي أخذت تقاسم الشركات العملاقة حصتها في السوق بل وتؤدي أحياناً إلى إزاحتها من الصورة تماماً. يصدق على الحرب الباردة مقولة أمير الشعراء أحمد شوقي: ومن السموم الناقعات دواء.

صحيح أن هذه الحرب الإعلامية والعقائدية التي ظلت «مندلعة» بين الشرق والغرب على مدى ما يقرب من نصف قرن، كلفت العالم ثمنا باهظا من الصراعات وحالات الاستقطاب تأييدا لهذا الجانب أو ذاك - الشيوعي والرأسمالي على وجه الخصوص. وصحيح أيضا أنها - شأن كل صراع عالمي شامل - أدت إلى تعطيل مسيرة التنمية والتفاهم والتعاون الدولي، مما ألحق خسائر بأجزاء شتى من المعمورة. وخاصة في أرجاء العالم الثالث الذي كانت معظم أقطاره خارجة لتوها من ربقة الاستعمار - إلا أن الحرب الباردة التي وضعت أوزارها مع بدايات التسعينات أسفرت عن تطور جذري، مذهل في بعض الأحيان في أحوال العالم وأوضاعه، وجاء هذا التطور - كما يقول مؤلف كتابنا (ص59 وما بعدها) نتيجة عوامل أساسية ثلاثة نحاول أن نوجزها فيما يلي:

أولا: أن الصراع في الحرب الباردة كان دافعا قويا لشحذ القدرات وشحن الإرادات بين المتصارعين في الشرق وفي الغرب من أجل التوصل إلى مستويات أعلى من التطور العلمي والتكنولوجي، جاء مجسدا على سبيل المثال في ريادة الخصم السوفييتي لغزو الفضاء حين أطلق القمر الاصطناعي «سبوتنيك» في عام 1957 ومن بعده أطلق أول كائن حي إلى أجواز الفضاء وهو «الكلبة لايكا» إلى أن نجح العلماء السوفييت في إطلاق أول رائد فضائي من البشر في التاريخ وهو «يوري جاجارين». في المقابل، وحسب قوانين الصراع من أجل التكافؤ ومن ثم التفوق، دارت عجلة العلم والاختراع لدى الخصم الأميركي، وساندتها إرادة سياسية حشدت من أجلها اعتمادات مالية سوبر - طائلة إلى أن لحق الأميركان بخصومهم السوفييت في غزو القمر عام 1969 ومن بعده توالت المخترعات التي كانت لها أصولها ومراميها العسكرية ولكن أمكن تطويرها من أجل الاستخدامات المدنية وتجسدت أهم هذه الابتكارات في الإعلام الفضائي من جهة، وفي ثورة المعلوماتية الالكترونية من جهة أخرى، مما أدى إلى نشوء ونضوج الظاهرة الكوكبية التي ما برح العالم يعايشها وقد رمزوا إليها بلفظة واحدة هي: العولمة.

ثانيا: جاءت هذه الابتكارات بكل ما أثمرت من نتائج وما طورته من نظم وأساليب في حياة البشر لتسجل فوزا للمعسكر الغربي - الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة على غريمه.. المعسكر الشرقي - الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي.

وعندنا إن لم يكن في الأمر قصور فادح في القدرات العلمية السوفييتية بقدر ما شاب مسيرة موسكو قدر فادح بالفعل من قصر النظر، وجاءت هذه السلبيات مجسدة في التركيز الشديد، إلى درجة المرض أو الوسواس القهري أحيانا على النواحي العسكرية فيما جاءت بنفس القياس على حساب النواحي المدنية أي على حساب حياة الناس ورفاه الشعب وراحة الجماهير.

وعندنا أيضا أن ثمة نجاحا لا يمكن تجاهله سجلته الحملات الإعلامية الموجهة من أميركا وحلفائها وكانت مسلطة لسنوات عدة وتركيز شديد وبإتقان مهني وتقني مشهود على سكان المعسكر الشرقي أو ما كان يعرف بدول الستار الحديدي.

ويومها وصلت رسالة الميديا الغربية إلى البيوت السوفييتية تنقل لأهلها أنهم مغبونون وأنهم لن يقتاتوا بالشعارات الشيوعية ولا الوعود بالفردوس الماركسي المرتجى، هذا فضلا عما نخر في بنية أنظمتهم السياسية من ديكتاتورية سياسية استأثر بمقاليدها «الرفاق» العقائديون دع عنك بيروقراطية حزبية تحجرت أفكارها وتكلّست طروحاتها عند مقولات ربما كانت تنطلي على الناس أيام لينين في عقد العشرينات وأيام استبداد القياصرة من قبلها.

المهم أن جاءت عقود الثلث الأخير من القرن العشرين لتدرك الشعوب السوفييتية أنها تعاني شظف العيش وأنها تستحق الأفضل، وأنها الخاسر الوحيد في معرض المقارنة مع المعسكر المناوئ في الحرب الباردة. وربما كانت القشة التي قصمت ظهر هذا البعيرالشيوعي ولصالح «البعير» الرأسمالي هي كارثة «تشيرنوبيل» التي نجمت عن انفجار المفاعل النووي في أوكرانيا وأدت ومازالت تؤدي إلى خسائر فادحة في البشر وفي الامكانات المادية.

وقد حدثت مع أواخر الثمانينيات وبالذات مع عهد غورباتشوف الذي كان لابد وأن يدرك مدى التصدع الداخلي الذي أصاب الهيكل - الديناصوري كما قد نسميه في الاتحاد السوفييتي. وعندما انكشفت سلبيات التكنولوجيا الشيوعية التي أفضت إلى كارثة تشيرنوبيل كان لابد وأن تنكشف عوامل تصدع هذا البنيان.

فلم تفلح في رأب صدوعه لا دعوات إعادة بنائه (البيروسترويكا) ولا كشف سلبياته (الجلاسنوست) التي حاول غورباتشوف أن يروّج لها فكان انهيار الصرح الشيوعي، وكان زوال الاتحاد السوفييتي، وكان انتهاء الحرب الباردة، وكان خروج الرأسمالية منتصرة مع فواتح التسعينات.

ثالثا: بإيجاز شديد تجسد هذا العامل الآخر في تطور النهج الرأسمالي فيما يصفه كتابنا بأنه نزعة فك القيود أو رفع الأطر أو اللوائح أو القوانين التي كانت تقضي بتنظيم أنشطة المجتمع - في مجال الاقتصاد بالذات، وقد نصفها بقدر لا يخفى من التردد أو التحوط بأنها إجراءات «تحرير» النشاط الاقتصادي.

وأيا كانت الأوصاف فإن مؤلف الكتاب يورد تعليقه موجزا حين يقول: إن هذه العوامل - الظواهر الثلاث أدت في مجموعها إلى إنهاء شكل الرأسمالية الديمقراطية على نحو ما كان سائدا عند منتصف القرن العشرين.

في هذا الإطار لم يكن كل شيء واعدا أو مُسعدا بالنسبة للرأسمالية الأميركية، بالعكس لقد ساعدت هذه الرأسمالية المنتصرة - كما ألمحنا - في الحرب الباردة على الإتيان بظاهرة «العولمة»، لكن هذه العولمة لم تأت على التحقيق مرادفة للتفوق الأميركي ولا طبعا للهيمنة الأميركية من ناحية الإنتاج أو الغَلَبة التجارية أو الإبداع.

في هذا الخصوص هناك من يقول: إن المؤسسات الأميركية (العملاقة) بدأت تفقد قدراتها التنافسية على صعيد الحلبة الدولية، وهكذا شهدت هذه الحلبة في مجال التجارة العالمية، غزوا - نعم غزوا من جانب المصدّرين والمنتجين الأجانب وهم يغمرون بل يغرقون أميركا بمنتوجاتهم التي جاءت من صنع أناس كانوا قانعين بتقاضي كسر بسيط من الأجور السائدة بين صفوف عمال الصناعة الأميركان، وأدى هذا بدوره إلى إنهاء تفوق الأجور السخية التي كان يتقاضاها العمال - أصحاب الياقات الزرقاء كما يسمونهم في أميركا.

بيد أن المؤلف لا يوافق تماما على هذا التفسير الذي يتهمه بالتبسيط الشديد - وبدلا من ذلك يحاول من جانبه تفسير تداعيات العولمة، قائلا إن الأمر انطوى على أن الشركات الأميركية هي التي «اختارت» أن توجه جانبا ضخما وطائلا من استثماراتها وأنشطتها من أجل الإنتاج خارج الحدود، في آسيا وأميركا الجنوبية على سبيل المثال.

لقد أفادت هذه الفعاليات الأميركية من تيسيرات الاتصال الفضائي بالأقمار الاصطناعية والتواصل الالكتروني بالحواسيب الشخصية وما في حكمها، لم يعد «المكان» هو الأساس ولا عادت «المساحة» الشاسعة التي يقوم عليها المشروع هي المحكّ أو الفيصل لنشوء المشروع، ولا عاد التقارب الجغرافي بين التخطيط والإدارة والتنفيذ هو جوهر نجاح عملية الإنتاج.

بل أصبح يكفي «التواصل» الالكتروني على مهاد مساحات افتراضية عابرا في ذلك أجواز الفضاء وطاويا في هذا كله آماد اليابسة ومساحات المحيط. وفي هذا الإطار راجت نظرية الإنتاج في الخارج حيث الخامات متوافرة بغير حاجة إلى نقل، بل هو التصنيع والإنتاج في موقع المادة الأولية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

وحيث التواصل اليومي بدقة ويسر متوافر على مستوى مبهر من الكفاءة، وحيث الأجور - كما سبقت الإشارة - لا ترقى إلى ربع النظير المحلي في أميركا. وقد لخص هذا كله المصطلح الذي دخل إلى أدبيات المنظومة الدولية في ثلاث كلمات هي: الاستعانة بمصادر خارجية.

في غمار هذا كله، كانت مسيرة السوبر - الرأسمالية وهي جوهر كتابنا تتواصل بخطى سريعة مستندة في ذلك إلى عملية فك القيود أو رفع الحواجز - هل نقول الضوابط - التي كانت تنص عليها القوانين والقواعد واللوائح بالنسبة للنشاط الاقتصادي، وهو ما أصبح يعرف في أدبيات الاقتصاد الحديث باستمرار «تحرير» الاقتصاد.

جمهرة من الدارسين والمحللين ينسبون فضل هذه العملية «التحريرية» إلى رئيس أسبق هو رونالد ريغان، ومن هؤلاء الدارسين من يحدوه الغرض السياسي الذي يحاول أن يعزو الفضل إلى الحزب الجمهوري الذي اشتهر زعماؤه بأنهم متحيزون بشدة إلى «الخاص» ضد «العام»، إلى القطاع الخاص في مقابل الدولة والحكومة، وبصورة أكثر من مبالغة في بعض الأحيان.

مؤلف الكتاب يرفض هذه الفكرة ويحاول أن يدحضها حين يقول: عندما تولى رونالد ريغان مقاليد الرئاسة في العام 1981 كانت الحركة نحو هذا التحرير الاقتصادي قد واصلت مسيرتها على مدار سنوات العقد الذي سبق هذا التاريخ، كانت التكنولوجيات الناشئة وقتها قد أتاحت فرصا جديدة لجني الأرباح، ويومها هبّت دوائر الأعمال والتجارة (البيزنس) إلى نشاط تحاول من خلاله إصابة ذلك «السد العالي» من النظم واللوائح والقوانين بأي صدوع أو شقوق تخرج منها إلى حيث حرية التصرف بعيدا عما كانت تفرضه اللوائح من ضوابط أو قيود.

ثم يخلص مؤلفنا إلى أن يقول: ومع تصاعد هذه الضغوط، لم يكن الأمر سوى مسألة وقت ليس إلا، وبعدها انهار ذلك السد المنيع الذي كان حافلا بالقواعد والتنظيمات. في هذا الإطار أيضا تجلت ظاهرة على مستوى بنوك الادخار وأسواق الأوراق المالية. وتجسدت في تحول بسطاء الناس من مجرد مدخرين في حوافظ المصارف إلى مستثمرين في دنيا البورصة، ومن ثم تلقت أسواق الأوراق المالية دفقا جديدا من الأموال التي جاءت بالذات من صناديق التأمينات والمعاشات التقاعدية.

في كل حال فقد جاءت الثورة التكنولوجية - ثورة الحواسيب والاتصالات الالكترونية اللحظية، وجاء معها دخول المؤسسات والمشاريع الاقتصادية الصغيرة الحجم إلى عمق السوق - جاء هذا كله بتعبيرات لم يكن يتوقعها جهابذة الرأسمالية التقليدية التي طالما قامت على أساس المشروع الكبير، والحجم الضخم والتوسع الشاسع والمؤسسة العملاقة.

كل هذا حل محله الشركات الأصغر - التي يمكن أن يقوم على أمرها أجيال جديدة من الشباب اليافع، والمشروع المحدود من حيث حجم العمالة والإدارة ومساحة الأرض ولكن المزود بامكانات الحواسيب والشبكات الالكترونية، جاء هذا كله ليتيح مزيدا من الخيارات الإيجابية أمام المستهلكين وليشكل تحديات شرسة واجهتها الشركات الكبرى، وعصفت بعدد منها في بعض الأحيان.

الكاتب في سطور

*يعمل بروفسور روبرت ريتش حالياً استاذاً بجامعة برانديز الأميركية، وهو أستاذ كرسي موريس هكستر للسياسة الاجتماعية والاقتصادية في كلية هيلر للدراسات العليا في الجامعة نفسها.

* شغل مناصب بارزة في ثلاث إدارات أميركية، وكان أبرزها العمل وزيراً للعمل في إدارة الرئيس بيل كلينتون.

*ـ قام بتأسيس مجلة «أميركان بروسبكت» المتخصصة، وتولى رئاسة تحريرها سنوات عدة.

* تنشر كتاباته بانتظام في عدد من أبرز الصحف والمجلات الأميركية، وفي مقدمتها نيويوركر، أتلانتك مونثلي، نيويورك تايمز، واشنطن بوست، وول ستريت جورنالز.

* أصدر عدداً من الكتب ذات التأثير الكبير، ومن أهمها «مستقبل النجاح»، وهو يقيم حالياً في كامبردج بولاية ماساشوستس الأميركية.

عرض ومناقشة: محمد الخولي