كان للأزمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الاندونيسي آثارها الخطيرة على الأوضاع في هذا البلد، فقد أدت الى تهاوي البناء الاقتصادي الاندونيسي والى الكشف عن الثغرات الخطيرة سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، وقد فاقم من حدة هذه الآثار أن التدخل السريع لمؤسسات التمويل الدولية لانقاذ الاقتصاد الاندونيسي قد ارتبط بالتزام الحكومة الاندونيسية بتفكيك الاحتكارات الانتاجية التابعة للدولة والغاء القيود المفروضة على التجارة الخارجية بالاضافة الى التزامها بتطبيق مجموعة من السياسات التقشفية أهمها تخفيض قيمة العملة الوطنية، تجميد الاستثمارات الحكومية في البنية الأساسية، ضغط الانفاق العام الاجتماعي في الموازنة الحكومية، رفع الدعم عن السلع الأولية وغيرها من السلع التي كانت تقوم الحكومة بدعمها. وقد أدى هذا الى زيادة معدلات البطالة والتضخم وزيادة الأعباء المعيشية على كاهل قطاعات كبيرة من الشعب الاندونيسي، الأمر الذي جعل ثلثي هذا الشعب يعيشون تحت خط الفقر منذ عام 1998. ولقد أدت هذه الأوضاع الى تفجر المظاهرات والاضطرابات وأعمال العنف في جميع أنحاء البلاد حيث طالب المتظاهرون باسقاط الرئيس سوهارتو وتقديمه واسرته الى المحاكمة بتهمة الفساد، وبالفعل تمت تنحية سوهارتو بعد ثلاثين عاما من الحكم وتولى نائبه يوسف حبيبي الحكم. فترة انتقالية وقد حاول حبيبي وبحكم معرفته بدقائق الأمور أن يتبنى نهجا وسطيا معتدلا في التعامل مع الأوضاع القائمة في إندونيسيا، خاصة فيما يتعلق بالاصلاح السياسي ومقاومة الفساد. فلقد أدت الفترة الطويلة لحكم سوهارتو الى تشكيل قوى ذات مصالح حيوية هامة حول نظامه، واذا ما أضفنا الى هذا ما تكشف بعد ذلك من حجم الفساد الذي استشرى في إندونيسيا خلال تلك الفترة، حيث وصلت نسبة العمولات التي كانت تحصل عليها عائلة سوهارتو من المستثمرين الأجانب الى 30% من قيمة هذه الاستثمارات، لتبين لنا مدى صعوبة الوضع الذي كان قائما بعد تنحي سوهارتو عن السلطة، فلقد تمأسس الفساد في أركان النظام السياسي الاندونيسي والقوى التي حققت مكاسب كبيرة خلال هذه الفترة لا يمكن أن تستسلم بسهولة لمتطلبات الاصلاح السياسي الديمقراطي. فاذا ما أضفنا الى هذا أن أندونيسيا تتكون من 300 جماعة عرقية، وأنها أرخبيل يضم الاف الجزر التي تتفاوت من حيث عدد السكان والثروات الطبيعية ودرجة التطور الاقتصادي، لوضحت المخاطر التي يمكن أن تواجه هذه الدولة في حالة القيام باجراءات غير محسوبة بدقة في مجال الاصلاح السياسي الديمقراطي ومقاومة الفساد، تصل الى امكانية تفكك الدولة أو اشعال الحرب الأهلية. إلا أن النهج الوسطى المعتدل الذي تبناه حبيبي واجه اعتراضات من قبل الجماهير الناخبة المطالبة بالاصلاح الديمقراطي الشامل، ومن قبل النخبة السياسية القديمة التي ارتبطت بنظام سوهارتو، والتي تملك وسائل عديدة للضغط على الحكومة بحكم معرفتها بنقاط الضعف الكامنة في الجسد السياسي الاندونيسي، حيث أن يوسف حبيبي لم يرفض الاصلاح السياسي الديمقراطي من حيث المبدأ، وإنما رأى ضرورة التدرج في تطبيق هذا الاصلاح، ومن ثم رأت النخبة السياسية القديمة أن موقف حبيبي هو مناورة حتى يستطيع أن يتحكم في مقاليد الأمور ومن ثم يبدأ في تطبيق برنامج الاصلاح الديمقراطي الذي سيهدد مصالحها المكتسبة من خلال الفترة السابقة، وربما يكشف عن تورطها في العديد من قضايا الفساد في ظل حكم سوهارتو، لذلك بدأت هذه القوى باللعب ببعض الأوراق الخطرة كإثارة النزعات العرقية والطائفية والترويج لبعض الدعايات الخاصة بثروات الصينيين الذي يمثلون 2% من السكان والذين يلعبون دورا هاما في النشاط الاقتصادي، وتحريك المظاهرات وأعمال العنف من أجل خلق حالة من عدم الاستقرار السياسي في البلاد. إلا أن حبيبي وجد في النهاية أن تبني المطالب الشعبية بالاصلاح الديمقراطي قد يساعده في تدعيم شرعية حكمه ومن ثم اتخذ عدة اجراءات في هذا الاتجاه منها السماح باطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية دون قيود واجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة عام 1999 بدلا من عام 2002، إلا أنه واجه موقفا صعبا إزاء تصاعد المطالب الانفصالية في تيمور الشرقية، ونظرا للضغوط الدولية التي تعرض لها اضافة الى الأوضاع المتدهورة في الداخل فقد وافق في النهاية على اجراء استفتاء لتقرير المصير في تيمور الشرقية تحت اشراف الأمم المتحدة، وهو الاستفتاء الذي جاءت نتيجته لصالح استقلال تيمور الشرقية عن اندونيسيا في سابقة خطيرة بالنسبة لاندونيسيا من شأنها تشجيع النزعات الانفصالية في بعض المناطق الهامة من الدولة. النقلة الأولى وقد أضر هذا الموقف بشعبية حبيبي حيث رأى الاندونيسيون أنه لم يستطع ادارة هذه الأزمة بالكفاءة المطلوبة، كما رأت في ذلك الوضع بعض قطاعات النخبة السياسية القديمة فرصة للتخلص من حبيبي من خلال الانتخابات الرئاسية، إلا أن الانتخابات البرلمانية والتي أجريت في يونيو 1999 قد تكفلت بهذا، فقد حصل الحزب الديمقراطي الاندونيسي للنضال بزعامة ميجاواتي سوكارنو على حوالي 37% من اجمالي الأصوات، في حين حصل حزب جولكار الحاكم على 18.2% وحزب النهضة القومية بزعامة عبدالرحمن واحد على 18.12% وحزب التفويض الشعبي بزعامة أمين ريس على 6.74% وذلك بالرغم من الدور الذي لعبه أمين ريس في الاطاحة بسوهارتو. وقد أدت هذه النتائج الى تضاؤل فرصة كل من حبيبي وريس في الفوز برئاسة إندونيسيا، ومن ثم تنافس على هذا المنصب كل من ميجاواتي سوكارنو وعبدالرحمن واحد، وقد فاز واحد بمنصب الرئاسة، وفازت ميجاواتي بمنصب نائب الرئيس في صيغة توفيقية تجمع بين المتناقضات، إذ يمثل واحد التيار الاسلامي وتمثل ميجاواتي التيار العلماني. وبالرغم من أن بعض المحللين قد رأوا أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية قد مثلت نقلة نوعية هامة للنظام السياسي الإندونيسي باتجاه الديمقراطية، حيث تم تداول السلطة بهدوء ووفقا لنتائج انتخابات نزيهة الأمر الذي يبشر باعادة الاستقرار السياسي في البلاد والبدء في علاج المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تواجه إندونيسيا، إلا أن التطورات على الساحة السياسية الإندونيسية قد جاءت بخلاف هذه التوقعات. ويرجع ذلك الى فشل الرئيس الإندونيسي في علاج الأوضاع الاقتصادية الصعبة والى تردده الواضح في ادارة العملية السياسية والتعامل مع القوى السياسية الفاعلة. ومن ثم لم تحقق عملية التحول من الديمقراطية الموجهة الى الديمقراطية المنفتحة التوازن المطلوب على المستوى السياسي، هذا بالاضافة الى أن الظروف الصحية الخاصة بالرئيس واحد وعدم تمتعه بالقدرات القيادية المطلوبة لمثل هذه المرحلة الحرجة من التحول السياسي وافتقاده الى القدرة على الحسم، ساعدت على ايجاد حالة من السيولة السياسية الواضحة في الواقع السياسي الإندونيسي الأمر الذي أدى الى تفجر العديد من الصراعات على السلطة السياسية وأبرزها الصراع بين البرلمان والرئيس واحد، هذا بالاضافة الى تصاعد الاضطرابات وأعمال العنف والنزاعات العرقية والطائفية، وتنافس الاتجاهات الانفصالية، خاصة مع تزايد رغبة العديد من الأقاليم ذات الموارد الطبيعية في الاستئثار بما لديها من موارد لدعم عمليات التنمية في أقاليمها بعيدا عن المركز في جاكرتا الذي كان يحصل على جزء هام من هذه الموارد لصالح الدولة ككل. وقد حاول الرئيس عبدالرحمن علاج هذا الوضع من خلال تطبيقه لسياسة جديدة شعارها لا مركزية ولا تفتيت. وتسمح هذه السياسة بتفويض تام للسلطات والاختصاصات بين المركز والأقاليم، وبموجبها أعطيت أقاليم الدولة البالغة 29 إقليما ومقاطعاتها التي تصل الى 30 مقاطعة الحق في ادارة نفسها ووضع الموازنات المحلية، والاستفادة من مواردها الطبيعية مقابل تقديم 30% للمركز من عائدات الغاز الطبيعي و15% من عائدات النفط و20% من عائدات الأسماك والأخشاب، تاركة للمركز شئون الدفاع والشئون الخارجية. الصيغة الغائبة وقد عارض الكثيرون هذه السياسة بوصفها تمهد لتفكك الدولة إلا أن الرئيس عبدالرحمن واحد أصر على تطبيقها مطلع هذا العام، إلا أن الأخطر في الصراع بين الرئيس السابق والبرلمان يتمثل في أن واحد كان يربط بين استمراره في السلطة واستمرار كيان الدولة القائم الآن، إذ يهدد بانفصال العديد من الأقاليم التي يتمتع فيها بشعبية مثل جاوة الشرقية، واتشيه واريان جايا عن المركز في جاكرتا. والواقع أن مجمل هذه التطورات التي تشهدها الحياة السياسية الإندونيسية قد أدت الى العديد من النتائج الخطيرة على المستوى السياسي الأمر الذي ينذر بمخاطر عديدة تواجه كيان الدولة الإندونيسية وأهمها ما يلي: 1 ـ إنهيار منظومة القيم السياسية التي قامت عليها الدولة الإندونيسية المعروفة باسم البنتشاسيلا والتي حافظت على التماسك الاجتماعي في دولة متعددة العرقيات والطوائف والتي كانت تتضمن المبادئ التالية: أ ـ الايمان بالوحدانية الالهية. ب ـ التعايش السلمي العادل. جـ ـ وحدة الأمة الاندونيسية. د ـ العدالة الاجتماعية. هـ ـ الديمقراطية الموجهة. هذه المنظومة القيمية التي ربطت وصاغت النسيج الإندونيسي تفككت. فالتعايش السلمي العادل قد انهار، ووحدة الأمة الاندونيسية أصبحت موضع تساؤل، والعدالة الاجتماعية لم تتحقق، والديمقراطية الموجهة سقطت مع سقوط سوهارتو والأخذ بالديمقراطية المنفتحة على النسق الغربي. 2 ـ تفكك النخبة السياسية الحاكمة وازدياد حدة الصراع على السلطة في نطاقها. 3 ـ سقوط أولوية تحقيق النمو الاقتصادي بالنسبة للاصلاح السياسي وإعطاء الأولوية للاصلاح السياسي الديمقراطي في ظل ظروف صعبة قد لا تتلاءم بالضرورة مع الشروط الموضوعية اللازمة لقيام نظام ديمقراطي يحقق الاستقرار السياسي والنهوض الاقتصادي. 4 ـ اضعاف السلطة المركزية في مواجهة سلطة الأقاليم والمقاطعات وفقدان السلطة المركزية للقدرة على السيطرة على الأوضاع الأمنية في البلاد. 5 ـ ازدياد حدة مقاومة الاصلاح والتحول الديمقراطي من جانب القوى التي حققت مكاسب كبيرة في عهد سوهارتو، الأمر الذي يجعل هذه القوى تحاول المقاومة الى أبعد مدى ممكن حتى لو أدى هذا الى تفكك الدولة الإندونيسية. إن هذه النتائج الخطيرة القائمة على الساحة السياسية الإندونيسية في حالة استمرارها بوضعها الراهن سوف تقود الى سيناريوهين أحلاهما مر، الأول استيلاء الجيش على السلطة واجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة في إندونيسيا، والثاني تفكك الدولة الى دويلات كما حدث في يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي. ويبقى الأمل في أن يتوصل السياسيون في إندونيسيا الى صيغة ملائمة تكفل الحفاظ على تماسك البلاد، وتحقيق التحول الديمقراطي المنشود الذي يوفر الاستقرار السياسي ويتيح الفرصة لخروج إندونيسيا من أزمتها الاقتصادية والسياسية الخانقة. بقلم: أ.د. محمد سعد أبو عامود ـ أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة حلوان