لاحت اربع فرص ذهبية للصادق المهدي في حياته السياسية, لكن ربما لحظه العاثر, او لسوء تقديراته السياسية, او لصعوبة موضوع الحكم في السودان, ضاعت عليه ثلاث من تلك الفرص النادرة.أولى تلك الفرص وأثمنها جميعا على الاطلاق, كانت في صدر شبابه, عندما اتى جامعة اكسفورد, يشدو بأفكار حزب العمال البريطاني , الذي عمل حينا من الدهر في صفوفه الخلفية. وقد انبهر الوسط السياسي السوداني الراكد فكريا, لاطروحات الصادق الاشتراكية والسندكالية اللامعة, التي جاء يطعم بها تراث حزب الامة وبرنامجه السياسي. ويومها جذب الصادق الى صفه صفوفا متكاثرة ممن ضاقوا بجهود افكار الحزبين الكبيرين, ولم ينتزع الصادق مؤيديه من صفوف ابناء حزبه فقط, وانما انتزع مؤيدين كثر لافكاره من صفوف الاتحاديين ايضا, ومن صفوف احزاب اخرى. النار.. غير الهادئة كان الصادق المهدي جديرا بأن يكون الواقي للسودان من شرور الحكم الديكتاتوري والعسكري, لو أنه كان صبورا ينضج افكاره وبرامجه على نار هادئة, لكنه للاسف لم يكن كذلك فخطواته السياسية المستعجلة, لا تتناسب مع ثقل الافكار والبرامج التي يطرحها, ولذا أدى استعجاله الوصول الى منصب رئيس الوزراء في منتصف الستينات, والى نشوب صراع لافح بينه وبين رئيس حزب الامة حينها (عمه) الهادي عبدالرحمن المهدي, وصراع اخر اعنف مع رئيس الوزراء السوداني حينها محمد محجوب, وهو الصراع الذي اضعف حزب الامة كثيرا, وأفقده اغلبيته البرلمانية في 1968. لم يكن ذلك فشلا للصادق المهدي على الصعيد الشخصي, لأنه اثبت مكانته السياسية وكسب في انتخابات 1968 اكثر من ثلاثين دائرة انتخابية, وتعمق وجوده السياسي اكثر ولكن السودان خسر كثيرا من جراء ذلك الشلل السياسي, والذي كبل البلاد عقب انشقاق حزب الامة, وهو الشلل الذي قاد الى انقلاب 1969. الفرصة الثانية التي لاحت للصادق هي فرصة المصالحة الوطنية مع نظام نميري في ,1977 وقد رضخ نميري لتلك المصالحة استجابة لضغوط اقليمية عنيفة مورست عليه ولم يكن نميري ولا اركان حكمه يومها, مهيئين نفسيا لمصالحة الصادق والمعارضة, بعد الحملة العسكرية التي باغتت بها المعارضة حكومة النميري, واطاحت بها لمدة ثلاثة ايام, رضخ نميري لتلك الضغوط, كما استجاب لها الصادق, عندما عرضت عليه في شكل رأي استشاري من مستشاره الاكبر (توماس جراهام) الذي يذكر في كتابه Sudan: Death of aDream انه هو الذي صاغ فكرة المصالحة الوطنية في السودان في اوائل ,1977 واقنع بها اوساط وزارة الخارجية البريطانية, والامريكيين, واقنع بها السادات الذي زاره مرارا لذلك الغرض. يومها اجرى نميري تعديلا وزاريا اخلي بموجبه منصبا وزاريا ومنصب رئيس الوزراء, وقد كان المنصب الاخير معروضا على الصادق المهدي, ولكن نميري بحرصه الشديد على السلطة, كان يزمع ان يبقى الصادق في ذلك المنصب مقيدا بقيود كثيرة, واحس الصادق بذلك العنت وتراجع عن مشروع المصالحة, بدعوى غريبة, لا صلة مباشرة لها بمشروع المصالحة نفسه, فهو قد ذكر في تعليل ذلك, ومازال يذكر, انه خرج عن المصالحة لأن نميري ايد صلح كامب ديفيد, وهو تعليل غريب, يحتاج هو الآخر الى تعليل من أجل ان يفهم, واذا صح ذلك التعليل, فهو سبب ثانوي ازاء السبب الأساسي الذي تمثل في محاولات نميري لتطويق الصادق بالقيود, وزرع العوائق والعراقيل في طريق مسيرته السياسية. استعجل الصادق مرة ثانية واطاح بمشروع المصالحة الذي كان بامكانه ان يورثه منصب الحكم الأعلى بالتدريج, وقد كان بامكان الصادق لو انخرط في مصالحة نميري, ان يحقق ما حققه الترابي وحزبه من نتائج اوصلت بهم الى السلطة في خاتمة المطاف. حانت الفرصة الثالثة بانقشاع فترة حكم نميري الطويلة للبلاد, بدا الصادق يومها لاغلبية مثقفي السودان, وقادة الرأي فيه, مرشحا وحيدا, يحمل اكثر من تأهيل يخوله حكم البلاد, ولم تسفر الانتخابات التي جرت في عام 1986 الا عن تحقيق ذلك الامل, لكن مامن مراقب منصف يستطيع ان يذكر ان فترة حكم الصادق كانت ايجابية باتجاه حسم الأرزاء الموروثة عن نظام نميري او الارزاء الجديدة التي انبثقت مع النظام التعددي الصراعي الذي ادى الى تشتت جهود الصادق السياسية, وتلقيه تحذيرات الجيش, ثم قيام الجيش بالانقلاب عليه في 1989. العامل الخارجي عندما وقع انقلاب الانقاذ كان اكثر ما ازعج الصادق هو احتمال وجود اصابع اجنبية وراءه, وهو الامر الذي عكف على بحثه ودراسته وتحليله خلال ايام اختفائه الاولى, وقد افصح عن ذلك الامر في مذكرته الاولى التي قدمها لقادة الانقلاب. كان الصادق يرى بأم عينيه اصابع اجنبية كثيرة تحوك المؤامرات في الاحزاب والجيش, وتستعجل انهاء فترة الحكم الديمقراطي, وكان في ظنه عندما قام عليه انقلاب الانقاذ ان احدى تلك القوى قد افلحت اخيرا في الاطاحة به, لقد اندهش اكثر المحللين من انزعاج الصادق من القوى الخارجية, مع انه يعرفها جيدا, ويتعامل معها بحنكة ويتمكن من تحييدها في كثير من الاحيان, لكن قلق الصادق كان له ما يبرره, اذ انه كان يدرك خير الادراك ان قوى اجنبية كثيرة لا تريد للسودان الاستقرار, وان تلك القوى لاتريد ان تتعامل معه, وانها لا تريد للسودان الا حكومة اقلية ضعيفة, تزيد من ضعضعة وزعزعة اوضاعه المضعضعة والمزعزعة اصلا, كان الصادق يدرك ان العامل الاجنبي ليس في صالحه على الاطلاق, فالعامل الاجنبي لا يساند الزعيم القوي, صاحب الاغلبية الكبيرة, لانه يكون على قدر من الاستقلال والنفوذ المتأبي على التبعية الخاضعة. الآن فقط ادرك من استغربوا من انزعاج الصادق يومها من القوى الاجنبية انه كان مصيبا, فهاهو يواجه القوى الاجنبية التي اهانت قدره, وهمشته, وحاولت, قدر الامكان ونجحت في ذلك, في ابعاده عن مركز قيادة التجمع المعارض, وبالتالي اضعفت آماله في الوصول الى حكم السودان, لو قدر للتجمع ان يطيح بحكم الانقاذ, لقد تمكن الصادق في 1974 من ان يقود تجمع المعارضة, الذي كان يسمى بالجبهة الوطنية, مع ان حزبه بجناحيه معا, لم يكن حزب الاغلبية, عندما اطاح نميري بالحكم الديمقراطي, اما عقب الانقاذ فقد حيل بين الصادق بقوة وبين قيادة تجمع المعارضة, بل لم يظفر بأي منصب في مراكزه القيادية, حتى عندما خرج من السودان في 1996 وذلك مع ان حزبه كان حزب الاغلبية البرلمانية الحائزة على تسعة وتسعين نائبا. الانقلاب على التجمع الآن انقلب الصادق على التجمع وعلى القوى الاجنبية بمجرد ان لاحت له الفرصة الذهبية الرابعة في حياته السياسية. عاد الصادق ليستخدم سياسة (القوة) وهو غير معروف باستخدامها على الاطلاق. هذه واحدة من مكامن سلبيات الصادق, انه لا يعرف مصادر قوته السياسية ولا يستخدمها جيدا, وانما يفضل استخدام وسائل اخرى يسميها علماء السياسة بـ (القوة الناعمة) , وهي قوة الاتصالات والحوارات ومحاولات الاقناع, ولذلك برز الصادق متحدثا وكاتبا ومفكرا اكثر منه اي شيء آخر. باصراره هذه المرة على شق طريقه منفردا متخطيا ضغط حلفائه في المعارضة, ومتخطيا اصرار امريكا على خط (ايغاد) فإن الصادق يجرب هذه المرة استخدام رصيده الحقيقي من القوة السياسية وقد برهنت قوته حتى الآن, انها كفيلة بزعزعة اركان التجمع, والانذار بافشال مؤتمره بكمبالا, ولخبطة حساباته السياسية لاحقا, واستطاع الصادق ان يقول بجهارة الصوت الكاملة (لا) لامريكا, بل سارع لاتهامها بعدم الجدارة بحل المشكل السوداني, قائلا ان همها الاول والاخير هو ان تفصل جنوب السودان عن شماله, لا ان تحل المشكل السوداني بكامله, ثم انها تريد ان تفصل السودان بكامله عن محيطه العربي, لتدمجه نهائيا في المحيط الافريقي, المعادي للعروبة, وانها قد اختارت حزبا سياسيا صغيرا, (لعله يعني قوات التحالف لعبد العزيز خالد الموجودة بارتريا) , وقررت الاعتماد عليها, بعيدا عن حزب الامة حزب الاغلبية الشعبية. يبدو ان الصادق قد ابرم امره مع الحكومة السودانية, لذا قرر عدم حضور مؤتمر قيادات التجمع بالعاصمة اليوغندية, وارسل بديلا عنه, وعن مبارك الفاضل المهدي, ارسل الدكتور عمر نور الدائم ممثلا للحزب, ود. نور الدائم قيادي بارز في حزب الامة, منذ الستينيات, ولكنه ليس من صناع القرار السياسي فيه, مهمته الاساسية هي انزال القرارات الى ادنى هياكل الحزب, والى الرأي العام, والدفاع عنها باستماتة, فهو ذاهب اذن الى كمبالا لاجل ذلك الغرض, لا لاجل التفاوض او التساوم او التنازل. سيتعرض الصادق لضغوط جمة من قبل الدول الاجنبية, ولكنه ان اصر على استخدام موارد قوته السياسية, فسيصل في النهاية الى نتائج افضل بكثير من تلك التي حصل ويحصل عليها, من استخدام منهجه السابق, في اعتماد القوة السياسية (الناعمة) وسيفرض نفسه قوة سياسية, بامكانها ان تغير ملامح المبادرات الحالية, لحل المشكل السوداني, وربما تمكن من ان يفرض مبادرته الحالية (نداء الوطن) من جيبوتي, بديلا عن مبادرات ايغاد الغارقة في الفشل.