عرف السودان الحديث الاختفاء لاسباب سياسية منذ عهود الاستعمار, وظل السودانيون يطورون هذا الارث جيلا بعد جيل, خاصة في ظل الانظمة الشمولية, ومارست غالبية القوى السياسية في السودان الاختفاء السياسي لفترات قصيرة وفي مختلف العهود, وللسودانيين خبرات طويلة في هذا المجال, بيد ان اختفاء قيادات الحزب الشيوعي السوداني ظل لغزا محيرا والى وقت قريب . وفي مطلع الشهر الجاري خرج الى العلن الحاج وراق سيد احمد احد القيادات الشابة بالحزب الشيوعي السوداني قبل ان يعلن انشقاقه واحد ابرز كتاب (الميدان) صحيفة الحزب, والامين العام لحركة القوى الديمقراطية الجديدة (حق) التي كان غالبية أعضائها ضمن عضوية الحزب الشيوعي السوداني, وكان وراق اختفى ضمن الكادر السري للحزب الشيوعي السوداني في 30 يونيو 1989, لكنه وهو تحت الارض استقال من الحزب الشيوعي السوداني, واسس مع بعض رفاقه القدامى حركة (حق), وخرج الى العلن مطلع فبراير الجاري عبر مؤتمر صحفي فضته قوات الشرطة بالقوة. سعت (البيان) الى وراق, يتحدث عن تجربته الشخصية وفي الاختفاء وقراءة افكاره الجديدة. وفي مقر (جمعية التنوير الثقافية السودانية) المنبر العلني لحركة (حق) في حي العباسية ــ وسط ام درمان ــ التقينا وراق, الذي اعتبر ان الاختفاء آلية اضطرارية لممارسة العمل القيادي المعارض. وقال في سياق الحوار الشامل الذي اجرته معه (البيان) ان الاختفاء في سياق الحزب الشيوعي كان اقل مشقة منه في سياق حركة (حق) لان الحزب مارس اخفاء قياداته منذ اكثر من (40) عاما استطاع خلالها ان يطور ادواته وبنياته, فيما كانت حركة (حق) حركة صغيرة وجديدة وتعمل بمعينات عمل اقل. ورأى وراق ان سلبيات الاختفاء تكمن في اعتماد الاختفاء على الكذب والتمويه, والكذب يتحول الى عادة عند ممارسته لفترة طويلة, كما انه ــ اي الاختفاء ــ يطرح على الانسان سؤال الاخلاق في العمل السياسي, اضافة الى ان الاختفاء يفضى الى خلق اشكالات نفسية عميقة للشخص المختفي ان لم يتسلح بالوعي اللازم, ودعا وراق الى عدم اسناد مهام قيادية لشخصيات عملت طويلا في مناخ العمل السري. وكشف وراق ان حركة (حق) لم تقدم كل كادرها الى العلن, واحتفظت ببعض قياداتها وكوادرها كخط دفاع نهائي لايصال صوت الحركة بسبب تعقيدات الوضع السياسي. وفيما يتعلق بالوضع السياسي الراهن يرى (وراق) ان (التوالي السياسي) كافتراض نظري قائم على ضرورة الوحدة, ويرى منظرو التوالي ان (الاختلاف والتنوع قيمتان سلبيتان) وزاد ان التوالي لم يقبل بالمغايرة الفكرية ولا يعبر عن تحول ديمقراطي لكنه ــ اي (التوالي) يعبر عن تنازلات قدمتها الحكومة وجاءت تتويجا لنضالات السودانيين, ودعا وراق الى الاعتراف بهذه التنازلات كضرورات سياسية هي تعني ان نضالات شعبنا اثمرت, ودعا الى ضرورة تشكيل مصدات ضد تيار التراجع عن التوالي السياسي, الذي قال عنه بوضوح انه افضل مما سبقه. وابان ان حركته بمغامرة الخروج الى العلن يمكنها ان تكون رأس الرمح لقوى المعارضة, وان حركته قبلت المخاطرة ولاتود فرضها على الآخرين, مشيرا الى ضرورة وجود, الصادق المهدي رئيس الوزراء السابق ومحمد عثمان الميرغني رئيس تجمع المعارضه خارج السودان لان الضرورة تقتضي ان يبقى (كبار الوطن) خلف خطوط النار, لان ذلك في مصلحة الشعب السوداني. واشار وراق الى ان العمل العسكري مازال مشروعا لان مبررات اللجوء اليه مازالت قائمة معتبرا ان مشروعية حمل السلاح تأتي من افتقار نظام الانقاذ لاجوبة ناجعة حول سؤال (ضمانات التداول السلمي للسلطة) وطالب وراق بتغيير العنف بضوابط اخلاقية, وألا يستهدف الابرياء ومؤسسات الشعب السوداني. وفيما يلي نص الحوار الذي يعد الاول من نوعه على صفحات صحيفة عربية مع الشاب (الثائر) العائد من تحت الارض: الاختفاء: قسوة المسيرة * ... ظللتم في الخفاء لنحو عشر سنوات ضمن الكادر السري للحزب الشيوعي السوداني, وابان هذه السنوات استقلتم من الحزب الشيوعي السوداني وعملتم ضمن مؤسس حركة القوى الديمقراطية الجديدة (حق), حدثنا عن (فلسفة) الاختفاء وظروفه وشروطه ونتاجاته؟ ثم.. كيف واصلتم الاختفاء بعد انشقاقكم من الحزب الشيوعي, وتأسيسكم لـ (حق) , وكيف تم الفصل بين اختفاء في (اطار شيوعي) وآخر في (اطار حركة حق) ؟ ــ الاختفاء هو آلية اضطرارية لممارسة القيادي المعارض وما هو طبيعي ان يكون القائد بين ابناء شعبه, ولكن في مواجهة حملات الملاحقة والاضطهاد لجأت الحركات السياسية لتأمين بعض قياداتها للمحافظة على ابقاء العمل القيادي في حدوده الدنيا ايا كانت تعقيدات الوضع السياسي, وشخصيا واصلت الاختفاء عندما نشأت (حق) كأنما هي بداهة, ولم يكن ذلك موضع التساؤل لان (حق) كحركة معارضة تحتاج الى تأمين كادرها القيادي لمواصلة نشاطاتها السياسية. وكنت بدأت الاختفاء ضمن حزب عمره تجاوز الـ (40) عاما له بنياته ومقاره السرية, وكادره السري, ولذلك لم تكن هنالك مشقة كبيرة في الاختفاء لانني كنت اتحرك في دوائر فحصت كلها للتحقق من انه لاي مدى يمكن الاستناد عليها وهل هي جديرة بالثقة ام لا, لان هيئات وبنيات الحزب الشيوعي السوداني اختبرت على مدى عشرات السنين. * لكن الامر اختلف عندما استقلت من الحزب الشيوعي وسعينا ــ مؤسسو (حق) وانا ــ الى تشكيل الحركة, و(حق) تأسست من سبع قيادات استقالوا من الحزب الشيوعي السوداني وواحد من قيادات حركة الطلاب المستقلين, بالجامعات وآخر من قيادات الطلاب الناصريين, وتأسيس حركة سياسية فاعلة يحتاج الى حركة واسعة جدا, لبناء عضوية جديدة لم يسبق اختبارها على اي مستوى, وفي ظل معينات على العمل ضامرة جدا, هذا فضلا عن انعدام النفوذ السياسي, وكنا نتحرك في حلقة ضيقة, وامكانات ضعيفة, وتعرض امنى كبير, لذلك كانت فترة الاختفاء في ظل حركة (حق) مشقة حقيقية, وكنت استخدم في تحركاتي المواصلات العامة مما يعني تعرضي لمخاطر امنية جمة, وهذا مالا يمكن حدوثه عندما كنت مختفيا في سياق الحزب الشيوعي اذ كنت استخدم في تحركاتي سيارة خاصة. الاختفاء من حيث القواعد العامة يعتمد على القدرات والعمل الجماعي للتنظيم, لكنه عمليا يعتمد على قدرة المختفي على التصدق. وهو على الرغم من انه ينبنى على القدرات الخاصة للمختفي الا انه عادة مايكون محددا بالاطار التنظيمي الذي تتحرك في سياقه, وعندما كنت مختفيا في سياق الحزب الشيوعي كنت متواجدا في اطار يضم مهنيين مثقفين ورجال اعمال وفئة عمرية معقولة, او ضمن ابناء جيلي, اما في سياق (حق) فأتحرك في اطار فئة عمرية ادنى, وقدرات مالية بسيطة وبالتالي امكانات مساعدة اضعف, لذا تتحدد قدرتي على التصرف في نطاق اضيق, وسواء كنت مختفيا في سياق الحزب او (حق) كنت استعين بعلاقاتي الشخصية, وصلات القربى. والعمل السري عموما, والاختفاء على وجه التحديد ينطوي على ايجابيات وسلبيات, فهو يعين القيادي السياسي على تطوير رؤيته ومنظوراته ويوفر له مناخ التأمل والتفكر والتدبر, ويتيح مساحة زمانية اكبر للاطلاع, اما الجوانب السالبة فإنه يعزل القيادي السياسي اكثر مما يجب عن الشعب, ولا يمكن ان يتجدد هواء العقل بعيدا عن الجدل والتأملات المعزولة عن الجماهير والشعب تكون عادة عرضة للانزلاقات لان القيادي لايكون ملامسا لنبض الشعب وتطوره في الغالب, حتى ان تلقى هذا النبض عبر تقارير او احاديث شفاهية, لكن هذه الحال خفت كثيرا في ظل الاختفاء في سياق (حق) لان ظروف الحركة تقتضي الخروج الى الشارع ولقاء الناس اكثر مما هو الحال في ظل الاختفاء في سياق الحزب الشيوعي. واسوأ ما في سلبيات الاختفاء ان كل ما يصدر عن المختفي قائم على التمويه, والتمويه يعني الكذب, لان المختفي يموه اسمه وشكله وعمله, ويعطي معلومات غير صحيحة عن اي سؤال يطرح عليه, ويلجأ الى نسج قصة (تغطية اسطورية) عندما يسأل عن مبررات وجوده في المكان الموجود فيه, وتظل المخاطرة قائمة في ان يتحول الكذب الى سلوك طبيعي عند ممارسته لفترات طويلة, ان لم يكن لدى المختفي وعي عميق وهذا اكبر خطر على المفكر والسياسي عندما يأخذ الكذب كممارسة طبيعية لذلك طرحت تجربة الاختفاء بالنسبة لنا احد اهم الاسئلة في الممارسة السياسية, وهو سؤال الاخلاق في السياسة, صحيح ان العلم السياسي ميز بين الاخلاق السياسية العامة والاخلاق الفردية, ومن المهم جدا انه حتى لكي تواصل السير تجاه غايات محددة لابد من بعض الانحناءات وبعض الالتفافات, لكن السؤال, ما هو مقدار الانحناء؟ وما هو مقدار الالتفاف؟ لانه من الممكن ان تلتقى ولا تعود مطلقا الى السير في طريقك, ويمكن ان تتجمد نهائيا ولا تصل مطلقا لان هناك عوائق كثيرة جدا لابد من الالتفاف حولها, وجاء اجتهادنا للاجابة على السؤال بان ثمة قيما كبرى يجب ان تحدد باشارات حمراء لايمكن الالتفاف حولها من نحو: الاستهانة بالحياة البشرية ــ عدم القتل داخل الجماعة ــ قيمة الرحمة, وهي قيم كبرى يجب ان تكون باستمرار تحت النظر, ايا كانت الالتواءات المؤقتة او الشروط والضرورات السياسية, وربما من حسن التصاريف انني اعلى المستوى الشخصي, وكنت اجاهد طيلة سنوات الاختفاء لان اكون انا نفسي, لا الشخص المموه وللحقيقة فإن الاختفاء يغذي في الانسان حاسة التوجس تجاه ذات الحقيقية, فيما تظل شخصية المموه او (الذات الكاذبة) هي الشخصية الطبيعية وهذا الامر يخلق تشوهات نفسية عميقة ان لم يتداركها الشخص الذي فرضت عليه الظروف السياسية الاختفاء. الشك.. والازدواجية * لأي مدى يمكن ان تسهم البراعة الشخصية في تمكين الاختفاء.. وصيرورته؟ ــ في الفترة الاولى تكون عامة اكثر قسوة, لكن فيها بعد يصبح الامر عاديا جدا, وتتلخص القسوة في كيفية تشكيل (شخصية اخرى) والصاقها بـ (الشخصية الطبيعية) , وتكمن المشقة في التدريب الذاتي والنفسي على كيفية تشكيل الشخصية البديلة والتعامل معها بعادية, والألم ينداح نتيجة للصراع النفسي الداخلي بين سيادة احدى الشخصيتين, وهنا يأتي دور البراعة الشخصية ليس في الانتصار لاحدى الشخصيتين, ولكن في التوفيق والموازنة بينهما, والابقاء على الخيط الرفيع بينهما مشعا بضياء الوعي الذاتي. ومن سلبيات الاختفاء الضارة ان المختفي, يتعامل مع الآخر على الدوام وفقا لآليات الشك, بينما الوضع الطبيعي للتعامل الانساني هو الثقة, وتبقى سمة الشك احدى اسوأ عيوب الاختفاء لانها ستنعكس على ممارسة العمل السياسي الجماهيري, وتصيبه بأضرار بالغة, وضرورة المواءمة في العمل السري تقتضي الحذر الكامل وان لم تضبط فإنها ستهزم حتى ضرورتها. وانطلاقا من التجربة الشخصية, ووفق رؤية نقدية ارى ان القيادات السياسية التي تكونت في سياق العمل السري يجب ألا يعهد لها بادارة العمل السياسي المتصل بالجماهير, وفي حال حدوث تغيرات سياسية افضت الى تحولات ديمقراطية فان على هذه القيادات, اما ان تواصل العمل السري ان اقتضى الامر ذلك, او تنسحب لمن (تكونوا) في سياق العمل الجماهيري المباشر ويجب الا تكون القيادة الى مالا نهاية, ونحن اضطررنا ــ كما قال برخت ــ ان نصعر خدنا في مواجهة الظلم, وعندما يزول الظلم يجب ان يأتي الآخرون الذين لم يضطروا لتصعير خدودهم, وبعد ان تتأسس آليات التحول السلمي الديمقراطي سوف لن تكون القيادة السياسية التي تصدت لمهام المرحلة السرية هي نفسها التي ستتولى المهمة القيادية في ظروف الحرية الواسعة والعمل الجماهيري الواسع. الغالب في العلن.. البعض في الخفاء * لأي مدى يمكن ان ينسحب الكلام عن الشفافية في العمل العام على عمل الحركة في المرحلة المقبلة؟ ــ نحن خرجنا من الاختفاء بغالب فاعليات (حق) للعلن, و(غالبا) هذه تعني ان (بعض) الفاعليات لم تخرج الى العلن, لان السودان لم تتوافر فيه حتى الآن آليات وضمانات التداول السلمى للسلطة, ومازال ثمة احتياج لآليات العمل السري, ونحن الآن نحتفظ بخط دفاع نهائي يتمثل في عناصر قيادية ومقار وادوات لايصال صوتنا لمجابهة تعقيدات الوضع السياسي حتى لا يصمت صوتنا مهما كانت الظروف, ستصدر مجلتنا وحتى لو ووجهت الحركة بهجوم واسع سنسعى الى ايصال صوتنا, لذا لم نخرج كل فاعليات الحركة الى العلن, ونحن لجأنا الى ذلك لان شروط التحول الديمقراطي لم تكتمل, وصحيح ان الكثير مما نود ان نقوله نستطيع ان نقوله في العلن, ولكن بعضا مما لم نستطع ان نقوله بصراحة قوله بالمداورة بـ (لغة العبودية) لغة الالتفاف والثورية, وللحقيقة فإن ضرورات العمل السري الكامل خفت الآن لكنها لم تنتف وهذا هو تقويمنا لما يجرى الآن في الساحة, وان ثمة تنازلات تمت على جبهة الحكومة وهي نتاج طبيعي لنضالات الشعب السوداني وصموده وتضحياته, وثمرة للتضامن الدولي الواسع مع نضالات شعبنا, لكن هذه التنازلات ليست كافية, ونعبر عن ذلك بقولنا ان الديمقراطية الليبرالية هي صبية جميلة, فقأوا عينيها, واقتلعوا رحمها, والصقوا بها لحية واسموها (التوالي السياسي) , وجوهر الديمقراطية التعددية هو التنافس, و(التوالي) يستبعد استبعادا مطلقا امكانية التداول السلمي للسلطة, و(الانقاذ) لم تقبل تنافسا سلميا حتى في الاتحادات الطلابية والنقابات, وبداهه لم تقبل التنافس السلمي حتى الآن في تداول السلطة عبر نظام الوطن. والديمقراطية التعددية تستند على ان الاختلاق قيمة منتجة, وتلح على الاختلاق والتنوع كما تلح على الوحدة, و(التوالي) كافتراض نظري قائم على ضرورة الوحدة, وان الاختلاف والتنوع قيمتان سالبتان, ونحن نقول ان النماء والخصب يأتي من لقاء المختلف, من الخصب البشري والطبيعي الى خصب الجمال والفكر, لذلك فإن وحدة القولبة هي وحدة الموت وليست وحدة الحياة, و(التوالي) لم يقبل المغايرة الفكرية حتى داخل اطار الحركة الاسلامية, وحالة د. حسن مكي انصع دليل على رفض المغايرة, وكان يمكن للحملة التي اقيمت ضد د. مكي ان تتسع لتأخذه الى المقصلة ان لم تبرز الى السطح مذكرة العشرة, المثيرة للجدل, والتي شغلت النخبة الحاكمة عن د. حسن مكي, لذا و(التوالي) برأينا لايمكن ان يعني الديمقراطية التعددية, ونحن لايمكن ان نغفل التنازلات التي حدثت, وان نقول لاتوجد تنازلات, ان ضرورة الصدق تقتضي ان نعترف ان ثمة تنازلات حدثت من قبل الحكومة, هذا فضلا عن الضرورة السياسية التي تقتضي الاعتراف بوجود تنازلات لان ذلك يشعر الشعب ان نضالاته وتضحياته وصبره اثمرت وضرورة تشكيل مصدات ضد تيار التراجع حتى عن (التوالي) لان قيادات نافذة في الحكم ترى ان (التوالي) اعطى اكثر مما يجب ان يعطي للشعب وقواه السياسية, وتسعى بكل جهدها (القيادات النافذة) لكي تنقلب (الانقاذ) على (التوالي) وتعود الى صيغتها الاولى كعنق عار وفظ في مواجهة الشعب, والآن تتمنى هذه القيادات وجود ذرائع للارداد على ما تحقق من تنازلات, لذا لابد ان نعترف بأن (التوالي) افضل مما سبقه, لكنه (التوالي) ليس كافيا, ولا يعتبر ديمقراطية تعددية. الخروج: قرار داخلي وخارجي * خروجكم الى العلن هل تم بناء على قرار المؤتمر العام لـ (حق) ؟ وما هي آليات التنسيق بين قيادة الخروج داخل السودان وخارجه؟ وهل يعبر عن اختبار للارادة السياسية للحركة الوليدة؟ ــ قرار خروج الحركة الى العلن تم اتخاذه في المؤتمر العام للحركة بالداخل, وتتمثل قيادة الحركة في قوامين احدهما في الداخل , والآخر خارج السودان, وكل قوام يختص في غالب شأنه ولدينا آليات للتنسيق المشترك وتبادل المعلومات والوثائق, ومؤتمر (حق) بالداخل توصل الى ان ثمة متغيرات حدثت في البلاد, وهي تحتاج ان يكون لدينا اساليب جديدة في العمل السياسي ومواكبة التطورات التي حدثت, وقرر (المؤتمر العام) خروجنا الى العلن, وتم التشاور مع قيادة الحركة بالخارج وباركت القرار. المهدي ــ الميرغني: كبار الوطن * هل يعتبر خروجكم عن اختبار الارادة السياسية لحركتكم الوليدة احد تكتيكات تبادل الادوار مع قوى المعارضة الاخرى؟ ــ بما اننا قلنا ان نضالات شعب السودان, والتضامن الدولي مع هذه النضالات, افضى الى تقديم الحكومة لبعض التنازلات في حرية التعبير والتنظيم, وان حملات الاعتقال والملاحقة غير متواترة ذات التواتر السابق, وان المعتقل لا يبقى في المعتقل ذات المدد السابقة, كما اتسعت منابر التعبير العام, لذا من الممكن ان يكون الاختفاء خصما على النشاط المعارض وليس اضافة له, صحيح ان مخاطر الخروج الشخصية اكبر لان القيادي السياسي يكون عرضة اكثر للقنص والملاحقة, لكن المردود السياسي اكبر, وهذا لايعني ان مبررات التغيير غير قائمة في البلاد, بلا على العكس فهي قائمة, ونحن نود ان نلعب دور (قطار المناوبة) للقوى السياسية الاخرى, او (رأس الرمح) كما يقال. صحيح ان الحركة جديدة, وعضويتها محدودة, وارثها ووزنها السياسي اقل.. وايضا عضويتها من فئة عمرية اصغر, وهي ليست في قامة (حزب الامة), الذي يتزعمه الصادق المهدي رئيس الوزراء السابق, ولا () الحزب الاتحادي الديمقراطي) الذي يتزعمه محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع الوطني الديمقراطي المعارض, لذا فإن قدرتنا في (حق) على المخاطرة اكبر, وهذا ما يجعلنا نعتبر اننا يمكن ان نلعب دور (قطار المناوبة) , وهذا لايعني ان مبررات التغيب القسرى انتفت, ولايعني اننا ندعو الآخرين لاستنساخ اجتهاداتنا, لان لكل حركة سياسية محددات لاجتهاداتها السياسية, وللحقيقية نقر ان التنازلات التي قدمتها الحكومة ليست غير كافية فقط, بل غير مقننة, لان القوانين التي تحكم البلاد مازالت قوانين قمعية, وهي كما قلنا تنازلات يمكن الارتداد عليها وغير مأمونة, وان كان بامكاننا المخاطرة فهذا لايعني اننا نفرض المخاطرة على الآخرين. وانا شخصيا اعتبر ان العبر والدروس من الحروب الاهلية عبر التاريخ, انه ان غيبت القيادات التاريخية فان احتمالات التبدد الاهلي صعبة, لذا ارى ان وجود المهدي والميرغني خارج السودان هو لمصلحة الشعب السوداني, لانه لابد ان يكون كبار الوطن خلف خطوط النار, ونحن لاندعو لعودتهما, ويجب الحفاظ على رموز البلاد التاريخية خلف خطوط النار, لكن يمكننا المخاطرة, وهذا هو السياق الذي خرج من اطاره اجتهادنا بالخروج الى العلن. مشروعية العمل العسكري * هل تعتقدون, وفق المعطيات السياسية الراهنة, وفي ظل توازن القوى سياسيا واجتماعيا ان هناك مبررات للعمل العسكري المعارض؟ ــ مجرد وجود عنف واسع في بلد ما, فإن ذلك يعني مباشرة ان النظام السياسي لايمتلك اجوبة صحيحة لاسئلة مطروحة بالحاح, والعنف في السودان الآن يجد مشروعيته الاخلاقية والسياسية من عدم وجود اجابات ناجحة حول ضمانات للتداول السلمي للسلطة, لذلك ترى ان هنالك مشروعية للعنف المعارض, لكن يجب ان يقيد العنف بضوابط اخلاقية, وايا كانت دواعي العنف ومشروعيته فنحن لن نؤيد مطلقا استهداف مؤسسات الشعب السوداني والابرياء, ايا كانت المبررات لذلك. ونحن نفضل آليات المقاومة المدنية, والعنف بالنسبة لنا يماثل تحليل اكل لحم الضب المذبوح وهو ليس حراما لكن تعافه النفس ونحن جزء من الحساسية الديمقراطية التي تتقزز من العنف حتى لو كانت اهدافه عادلة, ولكن هنالك من يضطر لاكل الميته. تسوية شاملة * دعت حركتكم الى انجاز (تسوية سياسية) في البلاد, ومن المعروف ان (التسوية) تقتضي تقديم تنازلات جذرية, ماهي طبيعة هذه (التسوية) وآلياتها, وما هي التنازلات التي يمكن ان تقدمها المعارضة للحكومة؟ ــ نحن مع كل قوى المعارضة السودانية التي ترى ان المؤتمر القومي الدستوري هو الآلية المثلى لعلاج سائر جراحات الوطن, وهو برأينا الآلية الممكنة لانجاز (تسوية سياسية) في البلاد, ونرى ضرورة اشراك القوى الاقليمية والدولية المؤتمر القومي الدستوري وفق الصيغة التي ترتضيها القوى السياسية في البلاد, ونحن مع دور عربي وافريقي ودولي, لان مصالح الشعب السوداني ترتبط بمحيط اقليمي ودولي, ولان الغرب هو المانح الاساسي لاي مشروع لاعادة التعمير وهو يملك آليات ضغط والزام لاي اتفاق, والغرب يشترك الآن في (التسوية السياسية) في البلاد عبر حجاب (ايجاد) , لذا يجب ان يلعب دورا مباشرا في (التسوية السياسية) لانه احد الضمانات الهامة لانجاز ما تم الاتفاق عليه. طبعا للقوى السياسية السودانية اجندتها المختلفة الى المؤتمر القومي الدستوري, وعليها ان تعى ان طرح كل اجندتها في المؤتمر الدستوري امر شبه مستحيل, او بالاصح فإن امكان تحقيقها في حدودها القصوى امر مستحيل, وعليها وهي تعي ذلك تماما المساومة للوصول الى حلول وسط. اما عن اجندتنا فهي تتلخص في انجاز ترتيبات دستورية تقوم على المواطنة, والديمقراطية التعددية, واللامركزية الواسعة الحقيقية, وتصفية مفاصل النظام الشمولي, واعادة بناء جهاز الدولة على أساس وطني مع التركيز على قومية الأجهزة النظامية وإعادة بناء السوق, فعلي سبيل المثال فإن ماهو متاح للتمويل من النظام المصرفي نحو 240 مليار جنيه سوداني, ويتم حاليا اتخاذ قرارات حول استحقاقات هذا المبلغ دون ضمانات كافية وعلى اساس الولاء السياسي, والمحسوبية, والمذكرات الشخصية, وهذا يعني تجريد الآخرين من امكانات المنافسة السياسية والاقتصادية, وفي اجندتنا ايضا اعادة بناء اجهزة الاعلام على اساس وطني, والملاحظ ان الاذاعة والتلفزيون السودانيين يقفان خلف (التوالي) ولابد من اعادة بنائهما على اساس قومي. وندعو, ايضا الى آلية تحفظ للبلاد معافاتها من جراحها من كل جرائم انتهاكات حقوق الانسان, والقتل خارج الدوائر القانونية, ويجب تقديم كل من اسهم في ذلك الى المحاكم حتى يدانوا على ما ارتكبوا من جرائم. ونحن ندعو الى احداث تسوية شاملة, على خلفية سياسات حكومة (الانقاذ) الاقتصادية التي تفقر كل شعب السودان, ويمكن, ان لم تنتبه القوى الحية في المجتمع, ان تكون (التسوية السياسية) تكأة لتجويع الشعب السوداني وافقاره اكثر مما هو عليه الآن, لذا ندعو ان يتناسب مع التسوية السياسية موازنات القضايا المعيشية للشعب السوداني, ونحن لدينا في هذا السياق حزمة اجراءات لم يحن بعد وقت اعلانها. ومن الايجابيات التي نلحظها الآن, بدء عدد من الاسلاميين في الحديث عن ضرورة التسوية السياسية في البلاد, فعلى سبيل المثال, طرح قيادي سياسي متنفذ اقتراح انعقاد (مؤتمر سياسي) عوضا عن (المؤتمر القومي الدستوري) وعندما قلت له انه اذا لم تلازم المؤتمر السياسي ترتيبات دستورية ما قيمة الحوار, فقال انهم (قيادات الانقاذ) يمكن ان يقبلوا بمناقشة الترتيبات السياسية عبر (المؤتمر السياسي) , وهذا يعني, ضمن ما يعني, ان ثمة قيادات في الحكومة تقبل بـ (التسوية السياسية) . وثيقة التفجيرات مزورة * نشرت احدى الصحف, المقربة من الحكومة, خلال الاسبوع الماضي (وثيقة) تمثل برنامج (حق) لقيادة المعارضة, وحوت الـ (وثيقة) عددا من آليات اعمال العنف والتخريب في العاصمة الخرطوم, ماهو تعليقكم على هذه الـ (وثيقة) ؟ ــ ما سمى بـ (وثيقة) من وثائق (حق) فبركة رخيصة, والصحيفة التي نشرت (الوثيقة المفبركة) تعبر عن مصلحة دوائر محددة داخل نظام (الانقاذ) ترى ان مصلحتها تقتضي مواجهة حركة (حق) التي وضعت في طليعة اجندتها الضغط من اجل استمرار التنازلات الحالية, ودفع الحكومة الى تقديم مزيد, من التنازلات والتحول الى انفراج سياسي لاحداث تحولات ديمقراطية جذرية. صحيح ان انتهاكات حقوق الانسان خفت, لكن لانه لاتوجد ضمانات قانونية, وضمانات مؤسسية دستورية لكفالة حقوق الانسان, فإن احتمالات التراجع عما اقرته الحكومة من تنازلات مازالت قائمة, والآن تحدث تراجعات, وان كانت اقل, والآن لدى حركة (حق) معتقلين سياسيين, بينهم (نائل الطيب) احد قيادات (حق) وتم ضربه واهانته واذلاله معنويا. كما ان حملة (حق) الداعية الى اخضاع الاجهزة الامنية للرقابة القضائية بدأت تجد اذانا صاغية لدى الرأي العام السوداني, وحتى لدى بعض قيادات حكومة (الانقاذ), لذلك حاولت الصحيفة قطع الطريق على هذه الحملة, وسعت الى اعطاء انطباع بان (حق) تريد ان تغل ايدى الاجهزة الامنية لتحدث تفجيرات وتخريب في البلاد. وما سمى بـ (وثيقة) التفجيرات مجرد كذب رخيص لان (حق) ليست لديها الرغبة او القدرة في احداث تفجيرات يروع ضحيتها الابرياء, او تؤدى الى تدمير ممتلكات الشعب السوداني وتهدف الحملة الى قطع الفريق امام المتعاطفين مع (حق) , وتجهيز الاذهان وتحريض الرأي العام ضد (حق) لكي تمهد لاتخاذ اجراءات ضد الحركة فإن ظن الذين سعوا الى ذلك اننا سنركع فإن ذلك لن يحدث, بل سنواصل انشطتنا وفق اجندتنا السياسية وسنوالي الضغط التعبوي والمقاومة المدنية لاخضاع الاجهزة الامنية للرقابة القضائية ايا كانت النتائج والتكلفة. مخطط تفجير الخرطوم * على خلفية هذا الحديث ماهو تعليقكم على احداث العنف التي شهدتها جامعة الخرطوم مطلع الاسبوع الماضي؟ ــ ما حدث في جامعة الخرطوم يقودنا مباشرة الى ان العاصمة ليست محتاجة الى قنابل اضافية, ومخطط تفجير العاصمة يجرى تنفيذه الآن في تهميش وافقار غالبية اهل العاصمة ويجرى تنفيذه بالسلاح السائب في يد كل من هب ودب, وفي تعبئة الهوس الديني الذي يستهدف الاحالة والشقاق بين مكونات الهوية السودانية, وهذا ما حدث بالضبط في جامعة الخرطوم. والشاهد ان عددا من المهووسين عبوا الطلاب, والحكومة تغض الطرف عن هؤلاء المهووسيين على الرغم انه لايلتقي معهم في اجندتهم الا انها تستطيع (الحكومة) ان تزايد بهم, ليقول للشعب السوداني ايهما افضل نحن (الانقاذ) ام هؤلاء (المهووسون)؟ هؤلاء المهووسون قادوا حملة للحيلولة دون اقامة معرض للطلاب المسيحيين وقاد هذه الحملة استاذ في كلية الآداب ظلت وسائل الاعلام القومية مفتوحه امامه باستمرار, وعبأ الطلابي بأن ليس من حق الطلاب المسيحيين اقامة انشطتهم الثقافية, وسبق ان قلنا ان جماعات الهوس يمكن ان تفلت عن الدور المرسوم لها وتفجر البلاد من اقصاها الى اقصاها, و(الانقاذ) دائما تزايد على حافة الهاوية, ومصائر الشعوب والبلدات لايمكن المخاطرة بها بعدم المسؤولية والاستخفاف كما تفعل (الانقاذ) المهم ان ما حدث في جامعة الخرطوم مخالف حتى لدستور 1998, وهو مخالف لبداهات العالم المتحضر. وهذه الحملة لم يقم بها تنظيم واحد, بل تنادت لها قوى عدة تيارات من جماعات الهوس الديني. ابتلاع شعار.. وليس تطورا * يقول مراقبون للشأن السوداني ان ثمة تطورات حدثت في الخطاب والفعل السياسي للحكومة, من نحو الاعتراف بالتعددية, وحق تقرير المصير والفدرالية, ويهلل لهذا القول عديدون من انصار النظام, وحتى بعض المتحفظين عليه, ماهو رأيكم في هذا الحديث؟ ــ صحيح ان الحكومة اخذت بعض الشعارات التي طرحتها المعارضة وسعت الى تطبيقها لكنها افرغتها من مضامينها, فعلى سبيل المثال نأخذ (الفدرالية) التي (تشظت) في سياقها البلاد في ظل فقر الموارد , وهي بذلك ليست (فدرالية) اضافة الى انها في نهاية المطاف مركزية محكمة كما ان التعددية التي تعني عند اهل (الانقاذ) ان يروا انفسهم في الآخر, وليس الاقرار به, وهم يريدون بذلك (استنساخ) انفسهم في صور اخرى, ولايودون الاستماع الى اصوات وآراء وبرامج اخرى, وكذلك حق تقرير المصير الذي لا يمكن تصوره او فهمه الا في سياق حريات كاملة, والنظام الذي يزور انتخابات نقابة المحامين لايمكن ان يقيم استفتاء نزيها. المهم بشكل عام في اتفاقية الخرطوم للسلام (ان النظام بدأ تحت الضغط) ولتجريد بندقية (حركة قرنق) من بعض مشروعيتها يتبنى بعض شعارات الحركة السياسية السودانية, مساعد الفريق البشير (حاكم الجنوب) ود. رياك مشار لولا ضغط الحركة الشعبية لما استأثر بما هو فيه الآن. زبدة القول ان الحكومة غير جادة فيما تطرح من شعارات, لكن قياسا بمنظورات محايدة فإن ما حدث على جبهة الحكومة يعتبر تطورا, فالحديث عن دولة المواطنة واقرار ذلك في متن الدستور يشير الى ان ثمة تقدما حدث على جبهة التطور السياسي, وهو في المحصلة ابتلاع لبعض شعارات المعارضة, وهذا ملمح يدعونا الى تبني الدعوة الى ممارسة مزيد من الضغط لتجريع حكومة (الانقاذ) المزيد من الادوية لعلاج ازمات فشلت محاولاتهم لعلاجها. لكن المهم ان (اتفاقية الخرطوم للسلام) لن تحقق سلاما, ولن ينظم على اساسها استفتاء ولن تقضي الى تقرير مصير. المسيحيون: سياج التمكين * وصلا بما سبق نلحظ ان المؤتمر الوطني يضم في عضويته وقيادته شخصيات مسيحية, الا ترى ان في ذلك تطورا في الفكر السياسي الاسلامي وتطورا لاعادة النظر في مكونات الهوية السودانية؟ ــ على الرغم من حديث الاسلاميين عن الدفاع عن العقدية, الا ان ما يهمهم, حقيقة, هو الدفاع عن الغنيمة, وهم يعرفون جيدا ان مواصلة حكم السودان يقتضي ان يحيطوا انفسهم بسياج من الجنوبيين للحفاظ على السلطة, ونظرياتهم السياسية الابتدائية لاتقبل وجود مسيحيين في تنظيم اسلامي, وهم قبلوا بذلك بضرورات التمكين والحفاظ على السلطة, والمسيحيون, في قيادة المؤتمر الوطني عبارة عن (تمومة جرتق) وهم ليسوا اكثر من اصباغ تزين بها الجبهة الاسلامية طابعها الاصولي, لكن هذه الاصباغ نفسها تغير الشكل, وهي بذلك تفت من عضد الخطاب الاصولي الذي مازال هو اساس التعبئة الفكرية والمعنوية, لكنه خف في وسائل الاعلام العامة. * حركة (حق) متهمة بانها تتلقى دعما من بعض القوى الاقليمية الثرية لمواجهة شطط الاصولية الاسلامية, ماهي مرافعتكم عن هذا الاتهام؟ ــ ان (حق) تعرضت لاتهامات عديدة, بعضها يقول انها صنيعة لدولة اقليمية, والبعض يقول انها صنيعة للمخابرات المركزية الامريكية C.I.A, وآخرها اننا صنيعة لدول اقليمية ثرية ضد الاصولية في المنطقة.. الى آخر الاتهامات. صحيح نحن ضد الاصولية لاختلافات فكرية وسياسية, والمتابع للحركة الاصولية يلحظ انها طرحت عدة اسئلة صحيحة, لكنها بعد اجتهاد قاصر, وصلت الى اجابات خاطئة. فلنأخذ سؤال الخصوصية الحضارية على سبيل المثال, فنحن نرى ان الاساس في وحدة النوع الانساني, لكن هذه الوحدة يجب ان تضع الاعتبار للخصوصيات الحضارية والثقافية للمجموعات البشرية المكونة للنوع البشري, والتصور الديمقراطي يستند الى فرادة الفرد, في اطار ثقافة مخصوصة, في اطار نوع انساني, والاجابة تكمن في المزج بين هذه المكونات الثلاثة, ونحن ننطلق من وحدة النوع الانساني مع مراعاة الخصوصية الحضارية, لكن نرى ان الهوية الحضارية للسودان, على الرغم من انها Sudanism, ولهذا الـ Sudanism , قوامات متعددة: القوام العربي الاسلامي الذي تواءم مع خصوصيات سودانية اخرى وصار ثمة عروبة سودانية واسلام سوداني ــ قوام افريقي اسلامي وقوام افريقي بكريم المعتقدات, لكن كل هذه القوامات انطبعت بالطابع السوداني, ويمكن ان نتحدث عن هوية سودانية ولايمكن المحافظة على الخصوصية الثقافية دون الاندراج في المدنية المعاصرة, لان هذا ومن واقع التجربة البشرية, يحافظ عادة على ماهو صحي في الخصائص الحضارية للمجتمع, واليابان اسطع مثال على ذلك. وكل الذين حاولوا القطيعة مع المدنية المعاصرة, فشلوا اولا في القطيعة, وحرموا مجتمعات من منجزات الحداثة الفاعلة والمفيدة, وفتحوا مجتمعاتهم للتأثيرات السالبة والشائهة التي افرزتها المدنية المعاصرة, وبشكل سري (دخل آليات السوق) السرية التي تخرب الاقتصاد قبل ان تخرب العقول وتفرغها من اي معنى وقيمة, وهؤلاء ابقوا شعوبهم في برزخ التشوهات, وبلداننا تستورد نصف الانتاج العالمي من الصور الخلاعية, لكنها لم تستورد الديمقراطية التعددية, ولا العقلانية, ولا التفكير العلمي. ولا يمكن لاحد ان يندرج في المدنية المعاصرة ويكون كما كان في السابق ولابد من حدوث تعديلات, لذلك فهويتك تتغير, وتصورنا للهوية ليس تصورا مغلقا بل هو تصور مفتوح, وكما نتفتح مع المدنية المعاصرة ونتلاقح معها, نفقد بعض سماتنا ونحافظ على ماهو صحي في هويتنا, ونحن لانتصور ان نحافظ على قيم التسامح, والتكافل, ونرى انه لايوجد مهرب من الحداثة والمدنية المعاصرة, ونحن حرقنا مراكبنا, ولا يمكن ان نرجع الى المجتمع التقليدي والقديم, وليس امامنا الا التقدم الى الامام, او نبقى في حال المراوحة فنستهلك ونأكل ذاتنا في الحروب العرقية, والتصدعات القبلية والخراب الاهلي. وبما اننا ندعو الى الانفتاح على المدنية المعاصرة فإن الحامل الاساسي للمدنية المعاصرة الآن هو الغرب, لذلك نحن لانستحى من الدعوة الى اقامة علاقات تبادل مصالح مع الغرب, لان هذا من مصلحة شعبنا, ونحن دوما ننطلق من الدفاع عن حقوق شعبنا والمسؤولية تجاه وطننا. ثم ان للسودان كبلد وشعب مصالح مع محيطه الاقليمي, فهناك رابط النيل الذي يستدعى اقامة علاقات تنسيق وتكامل مع كل دول الحوض, والعالم يطور وحدته الآن ويطور معها آليات تكامله الاقليمية, اذ لايمكن ان ندعو الى الاندراج في المدنية المعاصرة والاقتصاد العالمي الا بقدرات اكبر على المساومة, وهذه القدرات لاتوجد الا في اطار التنسيق الاقليمي, ويمكن ان يثمر اكثر, ونرى ان التنسيق بين الدول العربية والاسلامية يعطى كل الدول العربية مجتمعة, وكل دولة على حدة, امكانيات للمساومة في الاقتصاد العالمي بصورة افضل تعود على شعوبها بفوائد لاتحصى. وفي هذا الاطار فإننا نرى انه في حال تكامل رأس المال العربي مع الخبرات البشرية في مصر والاراضي والمياه الوفيرة في السودان, ان سقت هذه القدرات يمكن ان تعطى الدول العربية مجتمعة ميزات للمساومة في الاقتصاد العالمي اكبر, لذا نحن مع سوق عربية اسلامية لمصلحة شعب السودان ونحن نرى في اطار علاقات السودان الدولية ان مصالح الماء, ومصالح نهضة الشعب السوداني, مع مراعاة وجه البلاد الافريقي والعرب, تؤدي للخروج من عنق زجاجة (الهامشية) المزدوجة للسودان: لا هو قطر عربي فاعل, ولا قطر افريقي فاعل ولهذا لابد من ابدالها بفاعلية مزدوجة عربيا وافريقيا. اما الاتهامات المخابراتية لـ (حق) فهي نتاج لسيادة ذهنية المؤامرة في المجتمعات المتخلفة, وهذا ملمح من ملامح تخلفنا لاننا عادة ما نبحث عن موقع المؤامرة في اية قضية, وهذه نظرة خاطئة, ليس لان العالم بلا مؤامرات, ولكن آلية ذهنية المؤامرة نتيجة لمحاولة اعفاء الذات عما يحيق بنا من مصائب. فإن كان البعض يتصور ان (حق) صنيعة مخابرات امريكية فهل كل شعوب شرق اوروبا التي هبت في وجه انظمتها الحاكمة الشمولية, وقصمت ظهورها صنيعة امريكية ايضا, ان نفس الدواعي والضرورات التي اخرجت شعوب شرق أوروبا ضد انظمتها الشمولية هي التي اقتضت خروج (حق) الى الحياة والعلن, وهي (حق) اتت لضرورات واحتياجات اجتماعية وسياسية. وللاجابة على سؤال: هل (حق) صنيعة امريكية ام لا؟ لابد من طرح السؤال التالي؟ ما هي القوى السياسية في السودان التي تمتلك امكانات رصد اجتماعات بين حق والمخابرات الامريكية؟ وواقع (حق) يكذب هذه الافتراضات تكذيبا تاما, ونحن حركة فقيرة حقا, والآن حتى ماهو اساسي وضروري للعمل السياسي نبذل جهدا كبيرا لتغطيته ماليا. طلاق الماركسية * بما ان غالبية مؤسسي حركة (حق) كانوا ضمن عضوية الحزب الشيوعي, وقال اكثر من قيادي في (حق) ان منظري الحركة انجزوا مسودة (مشروع نقدي شامل للنظرية الماركسية) ماهي المعطيات النظرية التي استصحبها منظرو (حق) الذين كانوا ماركسيون سابقا الى بنية الاساس النظري لحركة (حق)؟ ــ كل الذين كانوا شيوعيين من مؤسسي (حق) طلقوا الماركسية اللينينية (طلاق بينونة كبرى) . لذا لايمكن الحديث عن (حق) كاحدى التأويلات الماركسية, وهذه احدى محاولات اغتيال صورة (حق) المميزة لان جوهر الحركة كونها رؤية جديدة, وطابع الجدة يكمن في التصور النظري لـ (حق) , وهي تأسس خطابها النظري على كل ما يحقق حداثة لشعب السودان, والحداثة هي مجمل الظواهر الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي ارتبطت بانتصار التصنيع في اوروبا والعالم الجديد. ونحن نريد تحقيق حداثتنا في ظروف ما بعد الحداثة, في ظل الثورة العلمية التكنولوجية, لذلك تتراكب مهام الحداثة مع مهام ما بعد الحداثة, ونحن نريد تحقيق ذلك في ظل مجتمع ما زالت تسود فيه الزراعة فقط, وذهنية القرون الوسطى, وظواهر اقتصاد رعوي, وبعض بقايا الذهنية العبودية. لذلك نحن مواجهون بمهام معقدة وليس امامنا اي نموذج جاهز لاستلامه وتطويره, لذا تكمن مشكلتنا في ابتداع نموذج للحداثة, اي نموذج ابداعي, لذا اطلقنا على برنامجنا (الحداثة الابداعية) . الاغنياء يشترون الآخرين * بما انه لايوجد نموذج يمكن استلامه وتطويره الا توجد مرجعية؟ وماهي؟ ــ ان المرجعية ليست الماركسية بالطبع, ونحن ننظر اليها دون تقديس, او ردة فعل طفولية, وهي احد مغنيات تفكيرنا السياسي, بيد انها ليست مرجعا من مراجع تفكيرنا, لكننا عندما نتحدث عن حداثة ابداعية لابد ان ننظر الى الأسئلة الفكرية والاجتماعية التي تواجهنا, والتي واجهت التجربة البشرية. ونلحظ ان المجتمعات القديمة والوسيطة انطرح امامها سؤال الحرية, وهو ذات سؤال مجتمع الحداثة في أطوارها الأولى يتلخص في ان لأيهما الاولوية الحرية ام العدالة؟ الماركسية اجابت بان الاولوية للعدالة, والليبرالية اجابت ان الاولوية للحرية, والتاريخ انتصر لليبرالية, واصبحت فيما بعد الحرية هي القيمة الارجح. ونحن نرى ان الاجابة الليبرالية اجابة مشتقة, لان كمال الحرية لن يتم الا بقدر من العدالة: (لايجب ان يكون الناس اغنياء اكثر مما يجب لكي يشتروا الآخرين, كما لايجب ان يكونوا فقراء ليبيعوا انفسهم) , ان مستويات معينة تجهض الحرية نفسها, ونحن مع منطلق نظري, مع التوفيق بين مستويات معينة بين الحرية والعدالة الاجتماعية وذلك لمصلحة الحرية ذاتها. سؤال مجتمع ما بعد الحداثة يتمحور حول كونية العالم ام خصوصيته؟ نحن نجيب: ان وحدة النوع الانساني مع العالمية, مع مراعاة الخصوصية؟ وان (قلت) وحدة النوع الانساني و(سكت) عن بقية الجملة فإن ذلك يعني انني ادعو الى عالم مفتوح بلا حدود او خصوصيات وفي ذلك شطط ايضا, وهذا ايضا سؤال حرية. وبما ان المجتمعات القديمة والوسيطة, ومجتمع ما قبل التصنيع (بدايات الحداثة) ومجتمع الحداثة, ومجتمع ما بعد الحداثة كل هذه المجتمعات ظلت تطرح على الدوام سؤال الحرية اذن السؤال الاساسي هو سؤال الحرية. خلاصة القول ان المرجعية النظرية الاساسية للحركة هي الديمقراطية. حداثة شعبية * هي اذن مرجعية تركيبية منوعة وبما ان الديمقراطية لم تصل بعد الى سقفها النظري, اضافة الى ان للمرجعية التركيبية اشكالاتها باعتبار انها مكونة من مجموعة مرجعيات لكل مرجعية خصوصيات وتجارب وخبرات تختلف عن الاخرى الا ترى ان ذلك قد يلقى بظلاله على الحركة في صورة (ازمة مرجعية) ؟ ــ صحيح انها مرجعية تركيبية, لكننا نتحدث عن حداثة ابداعية, وهذه تعني التفحص النقدي للنتاج العالمي والخبرات الانسانية, فإن المنصة التي تنطلق منها تتلخص في حداثة منفتحة على الذات وليست حداثة مغتربة, حداثة شعبية ان شئت, وابداعية تعني, ضمن ما تعني, القدرة على النقد, وهذه احدى سمات التفكير الحديث الذي لايتبنى لوعي لكل ما يتلقاه, لذا نحن احد ثمار الحداثة واحد اسلحتها وهذا يشكل محورا نظريا اساسيا ضمن منطلقات (حق) النظرية وذلك هو سلاح النقد. التجريب * اذن فإن الحركة ستتسنم صهوة التجريب للوصول الى نهايات النظرية التركيبية؟ ــ نحن نتحدث عن استنتاجات نظرية, وهذا يعني ان ثمة استنتاجات تهدي التجربة, وهذا يحيل الى اننا لاننطلق من (ايديولوجيا), وقواعد المطابقة لتلك الاستنتاجات هو التجربة (الواقع) لذلك فإن منطلقاتنا النظرية مفتوحة للمراجعة من واقع التجربة, مفتوحة للاغناء النظري, وهي لا شاطحة للتجريب دون هدى او نور, ولا هي مغلقة على نتائج التجربة, فاذا أخطأت التجربة بعض استنتاجات النظرية فنحن مستعدون لتعديلها وحتى التقاطع معها ان استوجب ذلك. حوار: محمد الاسباط