جاءت معاهدة «نيو ستارت» التي وُقّعت عام 2010  حلقة أخيرة في سلسلة طويلة من تاريخ اتفاقيات ضبط التسلّح النووي، والتي بدأت مع نهاية الحرب الباردة، لتشكل شبكة أمان استراتيجية هدفت إلى منع الانزلاق نحو سباق نووي غير منضبط.

وبنظرة سريعة نجد أن الاستقرار النووي العالمي اعتمد منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، على منظومة متدرجة بدأت بـ«ستارت 1» عام 1991، التي خفّضت لأول مرة الترسانات النووية الأميركية والسوفييتية إلى نحو 6000 رأس لكل طرف، وأرست نظام تفتيش وتحقق غير مسبوق، اعتبره «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام» حجر الأساس للاستقرار الاستراتيجي بعد الحرب الباردة.

لاحقاً، جاءت «ستارت 2» عام 1993  لتحاول معالجة أخطر أسلحة الضربة الأولى، عبر حظر الصواريخ الباليستية متعددة الرؤوس، لكنها سقطت عملياً بعد انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية عام 2002، وهو انسحاب وصفته مجلة "فورين أفيرز" حينها بأنه «أول شرخ حقيقي في بنية الردع المتوازن»، وفي محاولة لاحتواء الفراغ، وُقّعت «معاهدة موسكو» (SORT) عام 2002، التي خفّضت أعداد الرؤوس النووية شكلياً، لكنها افتقرت إلى آليات التحقق والشفافية، ما جعلها، وفق توصيف خبراء الحد من التسلّح،  أقرب إلى "اتفاق نوايا" منها إلى نظام ضبط فعلي.

بحلول عام 2009، ومع انتهاء صلاحية «ستارت 1»، بدا أن العالم على وشك فقدان آخر إطار قانوني منضبط للحد من سباق التسلح النووي، لتأتي «نيو ستارت» فتعيد ضبط الإيقاع عبر خفض أعمق للرؤوس النووية المنشورة، وإحياء آليات التفتيش المتبادل وتبادل البيانات. ولهذا ينظر إلى «نيو ستارت» بأنها آخر خط دفاع سياسي وقانوني يحول دون الانزلاق إلى عالم نووي بلا قيود.

اليوم، ومع اقتراب انتهاء العمل بهذه المعاهدة، وفي ظل غياب اتفاق نافذ يحل محلها حتى الآن، يجد النظام الدولي نفسه أمام فراغ عالمي في مجال ضبط التسلّح النووي. فبانتهاء «نيو ستارت» تتآكل منظومة كاملة لإدارة الخطر النووي بُنيت على مدى عقود، ويصبح السلاح النووي بلا لجام يكبح الجموح الاستراتيجي. وقد حاولت الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية الدفع باتجاه توسيع إطار هذه الاتفاقيات ليشمل الصين، في مسعى لتحويلها من ترتيبات ثنائية إلى صيغة ثلاثية تعكس واقع التوازنات الجديدة، إلا أن بكين رفضت الانخراط في أي التزام مماثل، معتبرة أن حجم ترسانتها لا يزال بعيداً عن مستويي واشنطن وموسكو.

هذا الواقع يفتح نقاشاً أوسع لا يتعلق فقط بعدد الرؤوس النووية، بل بطبيعة المرحلة المقبلة؛ وسؤال حول اتجاه العالم نحو حقبة تتراجع فيها قواعد ضبط التسلّح لصالح منطق الردع غير المقيد، وقدرة الدبلوماسية على إعادة إنتاج أطر جديدة لإدارة أخطر أسلحة عرفها التاريخ.

تفوق نوعي

يرى خبراء الحد من التسلح أن انهيار «نيو ستارت» يأتي نتيجة لمسار طويل من تفكيك منظومة ضبط السلاح الدولية، حيث بدأ بانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية عام 2002، ثم انهيار معاهدة القوات النووية متوسطة المدى عام 2019، وفق «مؤسسة بروكينغز» و«مجلس العلاقات الخارجية».

ووفق تحليل صادر عن «فورين أفيرز»، فإن هذه الانسحابات نقلت الردع النووي من منطق الاستقرار القائم على التوازن العددي إلى سباق مفتوح على التفوق التكنولوجي: صواريخ فرط صوتية، رؤوس نووية منخفضة القوة، أنظمة ذكاء اصطناعي لإدارة الإطلاق، وقدرات سيبرانية تستهدف شبكات الإنذار المبكر.

ويحذر داريل كيمبال، المدير التنفيذي لـ«رابطة الحد من التسلح»، من أن هذا التحول يُضعف الردع بدل أن يعززه، قائلاً: «المزيد من الأسلحة النووية، وغياب الدبلوماسية، لن يجعلا أي طرف أكثر أماناً، لا الصين ولا روسيا ولا الولايات المتحدة». وفي هذا السياق، تصبح الأسلحة النووية أكثر «قابلية للاستخدام» نظرياً، لا بسبب نية سياسية مباشرة، بل لأن تقليص القيود يزيد احتمالات الخطأ البشري أو التقني.

اتفاقية جديدة

الخطر الأكبر لا يكمن في عودة سباق ثنائي تقليدي بين واشنطن وموسكو، بل في تحوله إلى سباق ثلاثي مع الصين، فبينما تمتلك الولايات المتحدة وروسيا أكثر من 90 % من الرؤوس النووية العالمية، تشير تقديرات وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" وتقارير "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" إلى أن بكين توسّع ترسانتها بوتيرة غير مسبوقة.

بحسب تقرير للوزارة صدر في 2024، فإن الصين تعمل على بناء مئات الصوامع الجديدة للصواريخ الباليستية العابرة للقارات في مناطق شينجيانغ ومنغوليا الداخلية، ما قد يرفع عدد رؤوسها النووية إلى أكثر من 1000 رأس مع نهاية هذا العقد.

من جهتها، ترفض بكين حتى الآن الانضمام إلى أي إطار ثلاثي، معتبرة، حسب خارجيتها، أن ترسانتها «دفاعية» وأقل بكثير من نظيرتيها الأميركية والروسية.

ليس بالضرورة أن يعني انتهاء العمل باتفاقية «نيو ستارت» انهيار الفكرة التي حكمت النظام النووي منذ الحرب الباردة، لكن السلاح الأشد فتكاً في التاريخ يجب أن يخضع للعقل السياسي والضبط القانوني، في عالم تتراجع فيه الدبلوماسية لصالح منطق القوة.