في قواعد اللعبة السياسية المألوفة، تُعد "ثقة الرئيس المطلقة" التي تُمنح لمسؤول غارق في الأزمات علامة حمراء أخيرة، تُنذر بقرب موعد إقالته وربما نهايته السياسية.

لكن في عالم دونالد ترامب، حيث انقلبت قوانين الجاذبية السياسية رأسًا على عقب، يبدو أن كل الأعراف القديمة قد عُلِّقت. وزير الدفاع بيت هيغسيث، الذي كان يفترض أن يستعد لحزم حقائبه بعد فضيحتين مدويتين، يحصل اليوم على حصانة رئاسية شبه مطلقة، متجاوزًا التوقعات والتقارير الرقابية على حدّ سواء.

فهل أصبحت فضيحة الأمس هي مؤهّل البقاء اليوم؟

وزير "الحرب" و"التسعة أرواح"

بيت هيغسيث، الذي يفضّل لقب "وزير الحرب", لا يواجه مصيره فحسب، بل تحوّل إلى ظاهرة سياسية تملك "تسعة أرواح"، بعد أن نجا من فضائح كانت كفيلة بإنهاء أي مسيرة مهنية أخرى.

فبعد تجاوزه العاصفة التي أثارتها جلسة تثبيت ترشيحه وكشفت تفاصيل محرجة، يواجه اليوم اتهامات خطيرة بكشف أسرار عسكرية، واتهامات أخرى تلامس حدود "جريمة حرب".

فضيحة "سيغنال": أسرار عسكرية في تطبيق غير آمن

كشف تقرير لمكتب المفتش العام أن هيغسيث استخدم في مارس الماضي تطبيق "سيغنال" غير الآمن لمشاركة خطط هجوم "بالغة الحساسية" ضد الحوثيين في اليمن، وهو ما كان يمكن أن يعرّض القوات الأمريكية والمهمات للخطر.

وبرغم خطورة الاتهام، سارعت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، كارولين ليفيت، إلى نفيه، مؤكدة أن "الرئيس ترامب يقف بجانب الوزير هيغسيث"، ومشيرة إلى أن التقرير لم يثبت حدوث تسريب فعلي للمعلومات.

اتهامات بارتكاب "جريمة حرب"

الأزمة الثانية أشد وقعًا: اشتباه بارتكاب جريمة حرب في البحر الكاريبي.

فقد تصاعد الجدل حول الأوامر التي أصدرها هيغسيث، وما إذا كان على علم بضربة ثانية استهدفت قاربًا مشتبهًا بتهريب المخدرات في سبتمبر 2025، وأدت إلى مقتل ناجين من الهجوم الأول.

الديمقراطيون يؤكدون أن ما حدث يندرج تحت جريمة حرب واضحة وفق قوانين البنتاغون.

أما هيغسيث فيصر على أنه لم يكن على علم مسبق بالضربة الثانية، مؤكدًا دعمه الكامل للأدميرال فرانك "ميتش" برادلي الذي قيل إنه أصدر الأمر.

أزمات تهدّد ترامب… لكنها لا تهدّد هيغسيث

هذه الفضائح المتلاحقة تشكل مصدر إرباك للرئيس ترامب، الذي تراجعت شعبيته، وللحزب الجمهوري القلق من انتخابات منتصف الولاية المقبلة—وهي ظروف عادة ما تنهي المسيرة السياسية لأي مسؤول في موقع حساس.

لكن الوضع مختلف هنا: دعم ترامب لهيغسيث لا يقوم على الحسابات السياسية، بل على أسس أيديولوجية تعيد تشكيل قواعد الحوكمة والمساءلة في واشنطن.

هيغسيث: أداة مركزية في مشروع "تطهير الدولة العميقة"

يُعد هيغسيث أحد أبرز حلفاء ترامب في مسعاه لـ"تطهير الدولة العميقة".

فقد أشرف على إقالة محامين عسكريين وقادة كبار في البنتاغون اعتبرهم ترامب غير مخلصين، وأظهر استعدادًا لمواجهة المؤسسة العسكرية التقليدية وكسر أعرافها.

قيمة هيغسيث لدى ترامب تكمن في كونه تجسيدًا لـ "عقلية ترامب المدمّرة للأعراف"—شخص يرى القوانين وقواعد الاشتباك قيودًا ينبغي تخطيها لا احترامها، ما ينسجم مع رؤية ترامب المناهضة لما يسميه "السلوك المصحّح سياسيًا".

أيديولوجيا الحرب: رفض لقيود القانون الدولي

يتجلّى نهج هيغسيث بوضوح في كتابه "الحرب على المحاربين"، حيث يهاجم بشدة اتفاقيات جنيف وقوانين الحرب، متسائلاً بحدّة:

"هل يجب أن نتقيّد باتفاقيات جنيف؟ ماذا لو عاملنا العدو بالطريقة التي يعاملنا بها؟"

هذه الأفكار تروق لترامب، الذي يرى أن القيود القانونية تشلّ القوة العسكرية الأمريكية.

الكونغرس غير مقتنع.. والانتقادات تتصاعد

في المقابل، لا يشارك الكونغرس الرئيس ثقته بوزيره المثير للجدل.

كبار الجمهوريين يسيرون على "حبل مشدود" عندما يُسألون عنه، فيما لمح السناتور راند بول إلى أن هيغسيث ربما كذب بشأن واقعة الهجوم على القارب.

الديمقراطيون أكثر حدة

السناتور مارك كيلي قال إن هيغسيث "كان يجب أن يُقال" منذ فضيحة "سيغنال غيت".

أما السناتور جاك ريد فندد بـ"افتقار الوزير إلى الفهم الأساسي لضرورة التزام الجيش بالقانون الدولي".

رغم كل شيء.. هيغسيث في أمان

ورغم العواصف السياسية والاتهامات والضغوط المتصاعدة، يبدو أن بيت هيغسيث—حتى الآن—في مأمن من الإقالة.

فالتخلي عنه يعني أن ترامب سيفقد واحدًا من أهم رموز ولائه السياسي وأدوات مشروعه الأيديولوجي.