تعرضت حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للانتقام السياسي لانتكاسة محرجة مزدوجة، لكنها حققت في الوقت نفسه قفزة عملاقة إلى الأمام في استخدام السلطة التنفيذية ضد الخصوم.

فبينما انهارت القضايا الجنائية ضد المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي والنائبة العامة لولاية نيويورك ليتيتيا جيمس، بعد أن حكم قاضٍ بأن المدعي الخاص الذي اختاره ترامب تم تعيينه بشكل غير قانوني وسط موجة من الملاحقات القضائية المتسرعة والمدفوعة بضغوط سياسية، لم يفوت البيت الأبيض الفرصة بعد هزيمته المزدوجة يوم الاثنين الماضي .

فقد أعلنت وزارة الدفاع (البنتاغون) على الفور عن تحقيق قد ينتهي بتقديم بطل الحرب ورائد الفضاء والسناتور الديمقراطي مارك كيلي إلى محكمة عسكرية، بسبب مقطع فيديو أشار فيه هو وزملاؤه إلى أن أفراد الجيش ليسوا ملزمين بإطاعة الأوامر غير القانونية.

جاء هذا الإعلان بعد ادعاء ترامب في الأسبوع الماضي بأن كيلي والمشرعين الديمقراطيين الآخرين الذين ظهروا في الفيديو، وجميعهم من قدامى المحاربين في الجيش أو مجتمع الاستخبارات، قد ارتكبوا "الفتنة" ، أي التحريض على التمرد ضد الدولة ، وهي تهمة قال ترامب إنها قد تُعاقب بـ الإعدام.

لم يخفِ ترامب عزمه على استخدام السلطة الرئاسية لملاحقة خصومه انتقاماً من لوائح الاتهام الجنائية التي وُجّهت إليه، فقد كان هذا التعهد ركيزة أساسية في حملته الانتخابية لعام 2024.

لكن استخدام المؤسسة العسكرية لاستهداف خصم سياسي يعبر خطاً جديداً تماماً ويثير احتمالية تقييد حرية التعبير لقدامى المحاربين في حال انتقادهم للقائد العام للقوات المسلحة.

إن جوهر هذا النزاع القانوني يرتكز على القانون الموحد للقضاء العسكري (UCMJ)، وهو القانون الأساسي الذي يحكم القوات المسلحة الأمريكية.

فبموجب هذا القانون، فإن أفراد الجيش ليسوا مسموحاً لهم فحسب، بل هم ملزمون دستورياً برفض الأوامر غير القانونية أو تلك التي تنتهك الدستور الأمريكي.

هذا المبدأ هو حجر الزاوية في الأخلاقيات العسكرية الأمريكية، وقد وُضع لمنع ارتكاب جرائم حرب وسوء استخدام السلطة. وبمجرد إطلاق تحقيق ضد السناتور كيلي لمجرد تأكيده هذا الواجب الدستوري، فإن الإدارة تتحدى فعلياً معياراً قانونياً راسخاً بعمق.

ويُنظر إلى هذا التهديد من قبل الخبراء القانونيين على أنه محاولة لخلق "تأثير تجميدي" خطير، يضغط على قدامى المحاربين لإعطاء الأولوية للولاء السياسي للقائد العام على حساب يمينهم الأساسي بالولاء للدستور نفسه.

تمثل هذه الخطوة امتداداً لمحاولات ترامب لاستخدام مؤسسات الدولة لتسليح العدالة ضد خصومه، وهي عملية أظهرت قضيتي كومي وجيمس أنها متقدمة بالفعل داخل وزارة العدل.

وكان وزير الدفاع بيت هيغسث قد أقال في السابق ضباطاً عسكريين كباراً في محاولة لبناء فريق يعتقد أنه موالٍ للرئيس ولرؤيته الخاصة التي تمنح "مقاتلي الحرب" سلطة تقديرية غير مقيدة.

كما أنه أقال كبار المستشارين القانونيين الذين أثاروا تساؤلات حول مشروعية سياسات الإدارة. إن الاحتمال غير العادي بأن يتم استدعاء قائد متقاعد ومُزين مثل كيلي إلى الخدمة ليتم محاكمته بموجب القانون العسكري يهدد بأخذ العملية إلى مدى أبعد.

وحول ذلك، صرّح بول ريكهوف، المؤسس والرئيس التنفيذي لمنظمة "قدامى المحاربين المستقلين في أمريكا"، هذا عبور لنهر الروبيكون" فى اشارة  منه الى  أن الرئيس ترامب قد تجاوز خطاً أحمر دستورياً أو أخلاقياً غير مسبوق في استخدام القوة التنفيذية (وخاصة المؤسسة العسكرية) لأغراض الانتقام السياسي الشخصي ضد خصومه. .

وأضاف: "إن فكرة أن تتمكن من إعادته (كيلي) إلى الخدمة الفعلية وتهديده بمحكمة عسكرية... هي كسر لجدار لم يُكسر من قبل في الجيش الحديث."

تُعد الدلالات السياسية للصراع صارخة ومثيرة للانقسام؛ فالرئيس، الذي حصل على تأجيلات متعددة من التجنيد خلال حرب فيتنام، يستخدم الآن كامل قوة البنتاغون لاستهداف قبطان بحرية حائز على أوسمة رفيعة ورائد فضاء مثل كيلي، وهو رجل قاد 39 مهمة قتالية في عملية عاصفة الصحراء عام 1991 وقاد مكوك الفضاء.

هذا التباين الشديد بين عقود خدمة كيلي العسكرية والفضائية وإجراءات الرئيس يوفر ذخيرة سياسية قوية للحزب الديمقراطي. ويؤطر الديمقراطيون هذه المواجهة على أنها خيار واضح بين من يكرمون الدستور (كيلي) وإدارة تسعى إلى تسليح الجيش لخدمة ضغائن شخصية، وهي رواية يعتقدون أنها تلقى صدى واسعاً يتجاوز قاعدة "ماغا" الموالية.

وتشير تقارير اخبارية امريكية  موثوقة  إلى أن نجاح الملاحقات القضائية ضد كيلي أو كومي أو جيمس يبدو غير مرجح، لكن مجرد الوقوع في فخ المشاحنات القانونية يمكن أن يكون مؤلماً ومدمراً مالياً.

وقد علق مايلز تايلور، وهو مسؤول حكومي سابق في الأمن الداخلي يخضع للتحقيق من قبل وزارة العدل بعد انتقاد ترامب، قائلاً: "العملية هي العقوبة".

ورد البيت الأبيض على خسائره في قضيتي كومي وجيمس كما يفعل دائماً: بمضاعفة الاتهامات والوعود بالاستئناف، والتلميح إلى أن أي قاضي يحكم ضد الرئيس هو قاضٍ مهمل أو مُسيَّس.

وفي الوقت نفسه، حصد كيلي الأضواء السياسية، حيث يُنظر إليه كمرشح رئاسي ديمقراطي محتمل لعام 2028 يجذب المعتدلين، وقد استغل كيلي الأخبار على الفور في حملات لجمع التبرعات، مصرحاً لأنصاره: "وزارة الحرب تلاحقني لأنها لا تحب ما أقوله".

ومع استمرار ترامب في الهوس بالخلافات الشخصية القديمة التي تمتد لقرابة عقد من الزمان، يواجه حزبه تحديات اقتصادية وسياسية أوسع تهدد مساعيه في الانتخابات القادمة.

ونشر ترامب على منصة "تروث سوشيال" سلسلة من المنشورات قال فيها: "هذا يُسمى سلوكاً تحريضياً على أعلى مستوى. يجب اعتقال كل واحد من هؤلاء الخونة لوطننا ومحاكمتهم"، في إشارة إلى ستة أعضاء في الكونغرس خدموا سابقاً في الجيش أو في مجتمع الاستخبارات.

وأضاف في منشور آخر: "لا يمكن السماح لتصريحاتهم بالبقاء – لن يكون لدينا وطن بعد الآن!!! يجب أن يُضرب المثل بهم"، متسائلاً في منشور لاحق: "هل سجنوهم؟؟؟". كما أعاد نشر منشور لمستخدم آخر كتب فيه: "هل شنقوهم كما كان جورج واشنطن ليفعل!!"، مُعقباً: "يُعاقَب على هذا بالإعدام!".

وأصدر زعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز وفريقه القيادي بياناً حاداً جاء فيه: "كنا على اتصال بضابط الشرطة في مجلس النواب وشرطة مبنى الكابيتول الأمريكي لضمان سلامة هؤلاء الأعضاء وعائلاتهم. يجب على دونالد ترامب حذف هذه المنشورات غير العقلانية على وسائل التواصل الاجتماعي على الفور والتراجع عن خطابه العنيف قبل أن يتسبب بقتل أحدهم".

وكان أعضاء الكونغرس الستة قد نشروا مقطع فيديو على منصة "إكس" الأسبوع الماضي حثوا فيه الجيش ومجتمع الاستخبارات على "رفض الأوامر غير القانونية"، قائلين: "لا يجب على أي شخص تنفيذ أوامر تنتهك القانون أو دستورنا"، مضيفين: "اعلموا أننا ندعمكم... لا تستسلموا".