أعاد البابا ليو الرابع عشر، وهو أول بابا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية يولد في الولايات المتحدة، الكنيسة إلى قلب السجال السياسي الأميركي المحتدم، خاصة فيما يتعلق بقضايا الهجرة والعدالة الاجتماعية. هذا التوجه تجلى بوضوح في أول وثيقة بابوية رئيسية له بعنوان: "لقد أحببتكم".
وفي توقيت دقيق، بينما تُكثف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حملاتها لتشديد الرقابة على الحدود وترحيل المهاجرين، وضع البابا ليو الفقراء والمهاجرين في صميم رسالته.
وقد دعا البابا إلى أن يكون "الإيمان المسيحي فعلاً اجتماعياً يتجسد في الدفاع عن الأضعف"، وهو خطاب بدا وكأنه إعلان نيات لحَبر أعاد إلى الواجهة لغة أخلاقية تُربك التحالف التقليدي بين الكاثوليكية الأميركية والمحافظين الجمهوريين.
الوثيقة، التي وُقّعت في 4 أكتوبر، أشعلت جدلاً واسعاً بين الكاثوليك المحافظين.
ففي رسالته، دعا البابا ليو الأساقفة حول العالم إلى مناصرة العدالة الاجتماعية والدفاع عن المهاجرين، مؤكداً أنه "لا يمكن لأي مسيحي أن يعدّ الفقراء مجرد مشكلة مجتمعية؛ إنهم جزء من عائلتنا.
إنهم واحد منا". وقد فُهمت هذه الوثيقة كامتداد لنهج البابا الراحل فرنسيس، وتذكيراً بأن الكنيسة لا يمكن أن تنفصل عن الواقع اليومي ومعاناة البشر.
في انتقاد لاذع يمد "خط فرنسيس"، هاجم البابا ليو في الوثيقة ما أسماها "ديكتاتورية الاقتصاد القاتل"، واعتبر أن العالم يقف أمام خيارين: "إما نستعيد كرامتنا الأخلاقية والروحية، وإما نسقط في مستنقع من المخلفات".
ويرى المراقبون أن الباتبا يستخدم لغة لاهوتية تضع "الكرامة الإنسانية" فوق الحسابات الاقتصادية والسياسية الحزبية.
أثارت تصريحات البابا ليو غضباً متصاعداً داخل أوساط الكاثوليك اليمينيين الذين كانوا يأملون أن يُظهر أول بابا أميركي ميلاً إلى تقليدية أوضح من سلفه.
واعتبر جون هنري ويستن، مؤسس منظمة "علامة الصليب الإعلامية" المحافظة، في تصريح لصحيفة "واشنطن بوست"، أن البابا "يؤجج الارتباك الأخلاقي".
فقد وصف ويستن حديث البابا عن أن مؤيدي الإجهاض وداعمي فرض عقوبات قاسية على المهاجرين غير النظاميين لا يمكنهم الادعاء بأنهم مؤيدون للحياة، بأنه "تصريح فاضح".
وتزامن صدور الوثيقة مع احتدام الجدل داخل الولايات المتحدة بشأن سياسات الهجرة، خصوصاً بعد قرارات إدارة ترامب نشر قوات في عدد من المدن الكبرى.
وعلى الرغم من أن البابا ليو قال إنه "يفضل عدم التعليق على الخيارات السياسية داخل الولايات المتحدة"، فإن مضامين رسالته فُهمت بوصفها نقداً ضمنياً لنهج ترامب، لا سيما بشأن ترحيل العائلات المهاجرة وإلغاء برامج الحماية المؤقتة.
الصدام امتد إلى قضايا البيئة، حيث وجه البابا انتقادات حادة لمنكري تغير المناخ خلال قمة الفاتيكان المناخية الأخيرة، وبارك قطعة جليد من نهر غرينلاند الذائب في مشهد رمزي أثار سخرية المحافظين الأميركيين.
وكتب الأسقف السابق كارلو ماريا فيغانو، أحد أبرز معارضي البابا فرنسيس سابقاً، على منصة "إكس" أن "البابا الجديد يسير في النهج ذاته. إذا كان الفاتيكان يظن أنه بمنأى عن الهلاك، فسيتعلم قريباً أن الله لا يُستهان به".
في المقابل، شهدت شيكاغو (مسقط رأس البابا) ساحة اختبار رمزية للرسالة الباباوية الجديدة؛ حيث أكد رئيس أساقفة المدينة، الكاردينال بليز كوبيتش، خلال "أسبوع الهجرة الوطني"، أن الكاثوليك مدعوون إلى توسيع مفهوم "الدفاع عن الحياة" ليشمل المهاجرين واللاجئين.
وقد جاءت كلماته بعد أن قرر السيناتور الكاثوليكي ديك دوربين التراجع عن قبول جائزة "الحفاظ على الأمل حياً" إثر انتقاداتٍ لآرائه بشأن الحقوق الإنجابية.
بينما يؤكد مسؤولون في الفاتيكان أن البابا ليو يسعى إلى تجنب "التصنيف السياسي"، وأن الوثيقة قد تكون "ديناً مستحقاً لفرنسيس"، يرى آخرون أن البابا ليو يمثل "رمزاً للوحدة" بطريقته الطويلة الأمد التي لم تُغلق باب الحوار.
في نهاية المطاف، تكشف رسالة البابا ليو الرابع عشر عن توجهٍ يريد إعادة الكنيسة إلى قلب النقاش العالمي، في مواجهة نزعات العزلة والانقسام، وتضع الكنيسة الأميركية أمام سؤال جوهري: هل يمكن أن يكون الإيمان حقيقياً إن لم يدافع عن كل إنسان، بغض النظر عن هويته وحدوده وجنسيته؟ وبينما ينتظر كثيرون الوثيقة البابوية التالية لتحديد ملامح "عصر ليو"، يبدو الصدام بين الفاتيكان وإدارة ترامب، وإن لم يُعلَن رسمياً بات أمراً واقعاً.
