منذ عودته إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الدفع بأجندته المتشددة في ملف الهجرة، والتي تقوم على معايير صارمة أبرزها: حرمان فئات واسعة من الإقامة الدائمة، ووقف منح الجنسية بالولادة لأبناء المهاجرين غير الشرعيين، وعدم السماح بالعمل إلا لمن يثبت ولاءه الكامل للولايات المتحدة.

هذه الطروحات التي وصفتها صحيفة "نيويورك تايمز" بأنها "الأكثر تطرفاً في تاريخ سياسات الهجرة الأمريكية" أثارت جدلاً واسعاً حول تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية، ليس فقط على المهاجرين المقيمين في الولايات المتحدة، بل أيضاً على أولئك الذين يخططون للهجرة إليها.

تكشف معايير ترامب المقترحة للهجرة عن مفارقة خطيرة؛ فبينما تسعى إلى تعزيز أمن الحدود وإعادة تعريف المواطنة على أسس الولاء، فإنها تحمل في طياتها مخاطر اجتماعية بتقويض الاستقرار الأسري وزيادة التمييز، ومخاطر اقتصادية بتقليص قوة العمل، ورفع التكاليف، وخسارة العوائد الضريبية والمواهب.

خوف وتمييز

على الصعيد الاجتماعي، يرى مراقبون أن هذه السياسات قد تزيد من مناخ الخوف وانعدام الاستقرار بين المهاجرين، حيث أشار تقرير لمؤسسة "كي إف إف" المستقلة المختصة في أبحاث السياسة الصحية، واستطلاعات الرأي، والأخبار، إلى أن كثيراً من المهاجرين باتوا يخشون الذهاب إلى أعمالهم أو حتى إرسال أبنائهم إلى المدارس خوفاً من المداهمات وحملات الترحيل، ووصل الأمر ببعض الأحياء إلى أن بدت مطاعمها وحدائقها شبه خاوية؛ لأن السكان يلزمون بيوتهم تجنباً لأي مواجهة مع سلطات الهجرة.

في السياق نفسه، أوضح "مركز بيو للأبحاث" أن أكثر من ثلث المهاجرين من أصول لاتينية في الولايات المتحدة تعرّضوا لشكل من أشكال التمييز في ظل سياسات ترامب السابقة، بدءاً من مطالبتهم "بالعودة إلى بلدانهم" وصولاً إلى التنمر اللفظي.

وتشير هذه النتائج إلى أن معايير الولاء المشروطة التي يطرحها ترامب قد تُترجم اجتماعياً إلى مزيد من التمييز وصعود النزعات المعادية للأجانب داخل المجتمع الأمريكي.

تهديد للاستقرار

إحدى النقاط الأكثر إثارة للجدل هي سعي ترامب إلى إلغاء الحق الدستوري في المواطنة بالولادة، وهو ما أكدته تغطية قناة "سي إن إن" عند توقيعه أمراً تنفيذياً يستهدف هذا المبدأ في مستهل ولايته الثانية.

القرار، الذي أوقفته المحاكم مؤقتاً، يعني عملياً أن أطفال المهاجرين غير الحاصلين على إقامة دائمة لن يحصلوا على الجنسية الأمريكية، ما يضع أجيالاً كاملة في خانة "عديمي الجنسية" أو "المؤقتين".

هذا الإجراء لا يهدد فقط مستقبل الأطفال، بل يزرع شعوراً عميقاً بالقلق بين أسر مهاجرة استقرت في البلاد لعقود.

اقتصادياً، حذرت المؤسسات البحثية من انعكاسات مدمرة على سوق العمل، فبحسب دراسة لـمركز بروكينغز، سيؤدي تقليص صافي الهجرة بنحو نصف مليون شخص إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2% في عام واحد، ويقلّص نمو الوظائف الشهرية بمئة ألف وظيفة مقارنة بالعام السابق، هذه التقديرات تتسق مع تصريحات "رابطة البنَّائين والمقاولين الأمريكيين" التي أكدت أن قيود الهجرة الجديدة ستؤدي إلى نقص حاد في عمال البناء، وهو قطاع يشكّل فيه المهاجرون أكثر من ربع القوة العاملة.

وفي الزراعة والخدمات، اعترف ترامب نفسه وفق ما نقلته "واشنطن بوست" بأن حملات الترحيل "تسحب عمالاً جيدين وذوي خبرة طويلة" من قطاعات تعتمد أساساً على اليد العاملة المهاجرة.

والنتيجة المباشرة، بحسب تقارير اقتصادية محلية، هي ارتفاع أجور العمال المتبقين وبالتالي زيادة في الأجور.

إلى جانب نقص العمالة، يشير "المجلس الأمريكي للهجرة" إلى أن المهاجرين يسهمون سنوياً بمليارات الدولارات في الضرائب الفدرالية والمحلية، ووفقاً للأكاديمية الوطنية للعلوم، فإن كل مهاجر جديد مع أسرته يولِّد فائضاً مالياً صافياً يقدَّر بـ 326 ألف دولار على مدى 75 عاماً لصالح الميزانية الأمريكية، وحرمان البلاد من هذه المساهمات المستقبلية، مقابل إنفاق عشرات المليارات على حملات الترحيل، يعني عملياً نزفاً مزدوجاً للخزينة.

ربما جاء التوصيف الأصدق للحالة التي ستؤول إليها الأمور في الولايات المتحدة، ما ورد في تقرير لمؤسسة بروكينغز، بأن "الولايات المتحدة تخاطر بإطلاق النار على قدمها الاقتصادية؛ إذا ما تحولت الهجرة من رافعة للنمو إلى ساحة صراع سياسي".

الحلم يتبدد

بالنسبة للراغبين في الهجرة، تعكس هذه السياسات صورة سلبية عن الولايات المتحدة، فكما رصدت "فوكس نيوز" في تقرير موسع، فإن التوسع في قوائم الحظر وإدخال معايير "الولاء" يبعث برسائل إقصائية تقلل من جاذبية أمريكا كمقصد للطلاب والمواهب والمهنيين والمستثمرين، حيث أظهرت بيانات مكاتب التعليم الدولي أن حصة الولايات المتحدة من الطلاب الأجانب بدأت تتراجع خلال سنوات فترة ترامب الأولى، مقابل ارتفاع أعدادهم في كندا وأوروبا، ويبدو أنها في طريقها لتكرار ذلك الانخفاض بصورة أكثر دراماتيكية في ولايته الثانية.