بعد ثلاثة عقود، وخمسة رؤساء أمريكيين، وعدد لا يحصى من الدبلوماسيين الذين أنهكتهم خيبة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، يعود رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير (72 عاماً) ليطل مجدداً من قلب الأزمة.

فقد برز بلير كأحد اللاعبين الرئيسيين في صياغة خطة إعادة إعمار قطاع غزة وإدارته في حال التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، وفق ما أكده مسؤولون إسرائيليون وأمريكيون مطلعون على المناقشات.

الخطة، التي تضمنت بنوداً صاغها بلير، أُعلن عنها الاثنين عقب اجتماع مطوّل في البيت الأبيض بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حيث عبّر الأخير عن دعمه لها.

وتنص الخطة على إنشاء هيئة دولية جديدة لإدارة غزة بشكل انتقالي، تحت مسمى "مجلس السلام"، يرأسه ترامب، ويضم بلير وعدداً من القادة سيتم الإعلان عنهم لاحقاً.

ويتولى المجلس اتخاذ القرارات الاستراتيجية والدبلوماسية، والتنسيق مع إسرائيل ودول الخليج الممولة لإعادة الإعمار، إضافة إلى الإشراف على قوة دولية للاستقرار تعمل جنباً إلى جنب مع الشرطة الفلسطينية المحلية. أما الإدارة اليومية للقطاع، فستكون بيد مجموعة من التكنوقراط والمسؤولين الفلسطينيين، على أن تُسلم لاحقاً للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

إلا أن عودة بلير إلى الواجهة أثارت قلقاً لدى قطاعات فلسطينية واسعة، ترى فيه شريكاً أساسياً في غزو العراق عام 2003، ومؤيداً ثابتاً لإسرائيل طوال مسيرته السياسية.

من جانبه، اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك أن ارتباط بلير بالمنطقة "لم ينقطع أبداً"، مضيفاً: "منذ دخوله معترك السياسة الدولية، احتفظ دائماً بجزء من قلبه لهذا الصراع، وكأنه لم يغادره يوماً".

وتستند مكانة بلير في هذا الملف إلى تجربته الطويلة مع النزاعات المعقدة؛ بدءاً من دوره البارز في اتفاق الجمعة العظيمة بأيرلندا الشمالية عام 1998، مروراً بتدخل الناتو في كوسوفو، وصولاً إلى وساطاته المتكررة في الشرق الأوسط بصفته مبعوثاً أممياً ثم مستشاراً سياسياً. ويصفه بعض المقربين بأنه سياسي يملك "ثقة هائلة بقدرته على حل أعقد أزمات العالم".

ورغم أن بلير لا يزال شخصية مألوفة لجميع الأطراف في القدس ورام الله، إلا أنه يواجه انقساماً حاداً في النظرة إليه: فبينما ينظر إليه إسرائيليون كوسيط يمكن أن يساعد على تمرير بعض التنازلات، يرى كثير من الفلسطينيين أن سنوات انخراطه لم تحقق تقدماً ملموساً في مسار حل الدولتين، وأنه ظل منحازاً لإسرائيل، رافضاً حتى خطوة الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية كما فعل رئيس الوزراء البريطاني الحالي كير ستارمر.

وبينما يراه البعض وسيطاً جدياً، يراه آخرون جزءاً من الماضي الذي أثقل المنطقة بأزماته. عودته المحتملة إلى غزة قد تكون فصلاً جديداً في علاقة شخصية لم تعرف الانقطاع مع أحد أكثر الصراعات استعصاءً في العالم.

الجدل يتجدد حول دور توني بلير

تعود ذكرى الدور البريطاني التاريخي في إدارة فلسطين تحت الانتداب لتثقل على صورة توني بلير لدى الفلسطينيين، مع تجدد الحديث عن دوره المحتمل في إدارة مرحلة ما بعد الحرب في غزة.

وبينما تؤكد مصادر دبلوماسية أن مسؤولين في السلطة الفلسطينية تفاعلوا مع بعض مقترحات بلير، شدد محمود الهباش، مستشار الرئيس محمود عباس، على أن "لا أحد تشاور معنا"، مضيفاً: "لا نحتاج إلى ممثل آخر، الجهة الوحيدة القادرة على إدارة غزة هي حكومة فلسطينية ولا شيء غير ذلك".

ورغم ذلك، رحبت الحكومة الفلسطينية في بيان مساء الاثنين بما وصفته بـ "الجهود المخلصة والدؤوبة للرئيس دونالد ترامب لإنهاء الحرب على غزة"، وأعربت عن ثقتها في قدرته على إيجاد طريق نحو السلام.

من الجانب الإسرائيلي، يؤكد مسؤولون أن بلير يحظى بقبول واسع لديهم، وأن بعض أفكاره أُدرجت ضمن خطة ترامب للسلام، وتقول مصادر إن علاقته الشخصية مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تتسم بالود، وإنه حافظ على مشاورات مكثفة مع صهر ترامب جاريد كوشنر، أحد أبرز الوسطاء بين تل أبيب والرياض وأبوظبي.

وكان اسم بلير قد طُرح سابقاً في خطط متعلقة بغزة، منها مشروع "مؤسسة غزة الإنسانية" الذي أطلق في مايو لتوزيع المساعدات الغذائية، حيث وُصف بأنه المرشح لرئاسة لجنة دولية للإشراف عليه، قبل أن يتنحى عن الفكرة لاحقاً.

كما ارتبط اسمه في الصيف بمقترحات مثيرة للجدل تضمنت إعادة توطين أعداد من سكان غزة في دول أخرى، لكن معهد بلير أوضح أنه شارك حينها بـ "صفة استماع فقط".

ولا يزال الخلاف قائماً حول الدور المستقبلي للسلطة الفلسطينية في غزة بعد إزاحة حماس، ففي حين يرفض نتنياهو أي دور لها، يتمسك عباس برفض أي إدارة غير فلسطينية للقطاع.

ومع ذلك، تنص الخطة الجديدة على أن لا يُجبر أي فلسطيني على مغادرة غزة، وأن الهدف النهائي هو تسليم السلطة لإدارة فلسطينية "مُصلحة ومُعززة" في إطار دولة فلسطينية مستقلة.

وتبقى مقترحات بلير جزءاً من عدة مبادرات متنافسة، بينها مشروع لإعادة إعمار القطاع بقيمة 53 مليار دولار برعاية الجامعة العربية، وحتى الآن، لم يُحسم شكل الإدارة الانتقالية أو تفاصيلها، لكن دبلوماسيين يؤكدون أن أفكار بلير باتت تحظى باهتمام متزايد.

بلير ومسار السلام

منذ توليه رئاسة الوزراء عام 1997، انخرط بلير في مسار السلام، بدءاً من دعم مفاوضات أوسلو، مروراً بدفع الرئيس الأمريكي جورج بوش لطرح "خريطة الطريق"، وصولاً إلى عمله مبعوثاً للجنة الرباعية الدولية عقب مغادرته منصبه عام 2007، ومنذ ذلك الحين، ظل معهد بلير ناشطاً في المنطقة، مثيراً جدلاً بين من يراه فاعلاً من أجل السلام، ومن يعتبره يسعى وراء المكاسب السياسية والمالية.

قال الصحافي البريطاني جون رينتول، مؤلف سيرة بلير: "كنت أظن أنه تخلّى عن كل هذا منذ زمن، لكنه لم يتخلَّ عن فكرة أنه قادر على حل ما عجز الآخرون عن حله".