إعداد - موسى علي

في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة وتزايد استخدام الأساليب غير التقليدية في الحروب، تواجه المملكة المتحدة تهديدًا متنامياً من نوع جديد من الإرهاب.. "الإرهاب الزراعي"، وهو شكل من أشكال الحروب الهجينة، يستهدف سلاسل الإمداد الغذائي والمزارع مباشرة بهدف إحداث أضرار اقتصادية وصحية واسعة النطاق دون إطلاق رصاصة واحدة.

ففي تحقيق موسّع أجرته صحيفة "آي بيبر" البريطانية، تبيّن أن الأمن الغذائي في المملكة المتحدة أصبح عرضة لهجمات متعمدة، لا تستهدف البنى التحتية أو الشبكات، بل تترصد المحاصيل الزراعية والقطعان الحيوانية، بل وحتى المنتجات الغذائية في الأسواق.

يتخيل التحقيق، الذي أعده الصحفي المتخصص كاهال ميلمو، مشهداً يبدو للوهلة الأولى خيالياً.. طائرات مسيّرة مجهولة تحلّق ليلاً فوق الحقول الإنجليزية، ترش مواداً تحتوي على فطريات معدّلة، تصيب التربة والحبوب بسموم قد تقتل المواشي وتُحدث أمراضاً للبشر.

لكن هذا السيناريو، كما يشير الخبراء، ليس خيالاً علمياً، بل احتمال واقعي قائم في ظل التطور التكنولوجي وسهولة الحصول على أدوات هجومية زهيدة الكلفة.

كيف تحدث الهجمات؟ ومن الفاعل؟

بحسب التحقيق، فإن التهديد لا يقتصر على الدول المعادية فحسب، بل يمتد إلى الجماعات المتطرفة وحتى الأفراد الذين يمتلكون المهارات الكافية لإنتاج أو نشر أمراض زراعية أو حيوانية.

وقد تتخذ الهجمات أشكالاً بدائية مثل تلويث لحوم أو إدخال آفات عبر منتجات مهربة، أو تقنيات أكثر تطوراً مثل نشر فيروسات وفطريات عبر المسيّرات الجوية.

اللافت أن التحقيق ربط بين أحداث واقعية مقلقة، مثل اعتقال باحثين صينيين في الولايات المتحدة حاولوا تهريب سلالة فطرية تُستخدم كسلاح بيولوجي، وبين وصول شحنات بذور ملوثة إلى بريطانيا وكندا وأميركا من آسيا خلال الأشهر الأخيرة.

ثغرات في الرقابة

رغم أن المملكة المتحدة تمتلك جهازاً رقابياً فعّالاً عبر وكالة صحة الحيوان والنبات (APHA)، إلا أن "آي بيبر" نقلت عن خبراء أمنيين بارزين قولهم إن بريطانيا تعتمد حتى الآن بشكل كبير على "الحظ لا التخطيط" في تجنب كارثة وبائية.

ويعود ذلك، وفق التحقيق، إلى عوامل هيكلية تشمل ضعف البنية التحتية البيولوجية، ووجود نقص في الكوادر البيطرية، إلى جانب بطء تحديث المنشآت الحيوية مثل مركز وييبريدج الوطني الذي لن يتم استبداله قبل عام 2033.

لماذا الزراعة هدف مثالي للهجوم؟

يُقدّر حجم القطاع الزراعي البريطاني بنحو 14.5 مليار جنيه إسترليني، وتُعد سلاسل التوريد الغذائية في البلاد مترابطة بشدة، ما يجعلها عرضة لانهيار سريع في حال حدوث خلل مقصود.

ويحذر الخبراء من أن الزراعة الحديثة، بتركيزها على أنواع محدودة من المحاصيل وطرق تربية مكثفة، تخلق نقطة ضعف استراتيجية يمكن استغلالها بسهولة، ويضيف اللواء المتقاعد جون غالا تاس، وهو خبير يوناني في الأمن البيولوجي: "الزراعة هدف مغرٍ جداً، فبريطانيا جزيرة بكثافة سكانية مرتفعة وبُنية زراعية مركزة، وهذا يجعلها أكثر عرضة لتأثيرات مدمرة في حال وقوع هجوم متعمد."

منتجات في قلب الشبهة

يشير التحقيق إلى أن سلعاً شائعة كالتوابل يمكن أن تكون بوابة لهجوم زراعي، فبحسب الخبير ديفيد ستيفل من "مبادرة التهديد النووي" الأميركية، فإن بعض المواد الغذائية مثل التوابل المستوردة قد يتم التلاعب بها بطريقة خبيثة "تفوق الغش التجاري التقليدي".

وذكر أن معظم هذه التوابل تأتي من مناطق معرضة لمخاطر بيئية وصحية، مما يسهّل إمكانية استخدامها كوسيلة لنشر أمراض يصعب تعقب مصدرها.

الحاجة إلى تحول استراتيجي

يطالب الخبراء المشاركون في التحقيق، وعلى رأسهم ستيفل وغالا تاس، بضرورة إدراج الزراعة ضمن أولويات الأمن القومي، أسوة بالطاقة والدفاع، فالهجوم على الغذاء والزراعة لا يسبب فقط خسائر اقتصادية ضخمة، كما حدث في وباء الحمى القلاعية عام 2001 الذي كلّف بريطانيا ما يعادل اليوم 18.7 مليار دولار بل يضرب الثقة العامة في مصدر الغذاء، ويُحدث فوضى اجتماعية واسعة النطاق.

حرب من نوع آخر

ما تكشفه صحيفة "آي بيبر" ليس مجرد تحذير أكاديمي أو افتراضي، بل نداء عاجل لإعادة رسم خريطة التهديدات في العصر الحديث، ففي زمن الحروب الصامتة، قد لا تأتي الضربة عبر صاروخ أو اختراق رقمي، بل من بذرة فاسدة أو طائرة مسيّرة تحلق في الظلام