باتت التحولات في العلاقة بين أوروبا وروسيا أكثر تسارعاً وأشد سخونة، مع استمرار الحرب في أوكرانيا، وتراجع فاعلية العقوبات الأوروبية، مقابل تقدم روسي ميداني يفرض وقائع جديدة على الأرض.

ومع اتساع الفجوة بين الرؤية الأوروبية والتحرك الأمريكي المتمثل بمحاولات الرئيس دونالد ترامب، الدفع نحو وقف نار، تتشكل مقاربات أوروبية مختلفة، بعضها متمسك بمسار الحرب حتى نهايته، وبعضها الآخر يعيد النظر في كلفتها وجدواها.

في هذا المشهد غير الجديد على العلاقة بين روسيا والغرب، تتحول الأزمة من مواجهة عسكرية أو حرب هجينة في أوكرانيا إلى اختبار شامل لقدرة أوروبا على الاستمرار في تحمل تداعيات صراع يزداد طولاً وتعقيداً.

داخل الاتحاد الأوروبي، لا يقتصر الضغط على الأعباء الاقتصادية المتزايدة، بل يمتد إلى البنى السياسية الداخلية التي باتت تواجه صعود تيارات احتجاجية وتشكيكية في جدوى الاستراتيجية الحالية. كما أن الثقة الشعبية في العواصم الأوروبية الكبرى تتراجع، والمخاوف تتصاعد من أن تتحول الحرب إلى عبء داخلي يعيد ترتيب أولويات الحكومات على حساب برامج الرفاه والبنى الاجتماعية. هذا التآكل لا يظهر فوراً في شكل انقسام سياسي، على حساب التماسك الأوروبي الذي تشكل في الأسابيع الأولى من الحرب.

ومع التقدم المتدرج الذي يحققه الجيش الروسي، تتقلص قناعة العواصم الأوروبية بقدرة كييف على استعادة المبادرة العسكرية، وتصبح النقاشات أقرب إلى كيفية إدارة الخسائر بدل محاولة قلب الميدان، هذا التقدم يمنح موسكو هامشاً تفاوضياً وعملياً أوسع، ويوجه رسائل متعددة الاتجاهات بأن الزمن في صالحها، وأن الدعم الغربي، مهما طال، لن يغير معطيات «الجغرافيا السياسية» في فضائها الحيوي.

العقوبات غير مجدية

العقوبات التي كانت الأداة الأوروبية الأولى لإضعاف موسكو تحولت إلى عنصر جدل داخلي؛ فقد أظهرت التجربة أن الاقتصاد الروسي اكتسب قدرة ملحوظة على إعادة التموضع، وأنه بفعل العقوبات ركزت روسيا على تطوير قواها الذاتية، والاستناد إلى شبكات جديدة في آسيا والشرق الأوسط. وبينما تكبدت أوروبا التكاليف الأكبر، ولا سيما في الطاقة والصناعة الثقيلة، لم يتحقق الهدف الأساسي بالعزل الاقتصادي أو شل قدرة روسيا على تمويل الحرب. هذه الفجوة بين التوقعات والنتائج أصبحت عاملاً مؤثراً في إعادة تقييم المسار الأوروبي.

ويتعمق القلق داخل المؤسسات الأطلسية من أي مبادرة لوقف الحرب تأتي من خارج أوروبا، وتحديداً من إدارة ترامب، ما يضع القارة أمام خيارين، إما قبول تسوية لا تشارك في صياغتها، أو الإصرار على استمرار الحرب حتى إشعار آخر، وهذا يعكس معضلة كبيرة، فلا هي قادرة على خوض حرب طويلة وحدها، ولا هي راغبة في تسوية سريعة قد تُقرأ كتنازل استراتيجي لصالح موسكو. وبين الموقفين تتسع الهوة بين مصالح كل من أوروبا والولايات المتحدة.

تعايش بارد

أمام هذا الواقع، تبرز ملامح مرحلة جديدة في العلاقة بين موسكو والعواصم الأوروبية. فالمصالحة الكاملة تبدو بعيدة، والمواجهة المفتوحة تتجاوز قدرة وربما رغبة الجميع، ما يدفع نحو صياغة غير معلنة لـ«تعايش بارد»، يتجلى بعلاقات محدودة، لكنها ضرورية، في ملفات الطاقة والتجارة، إلى جانب تصلب في ملفات الأمن والحدود.

روسيا لديها فلسفة موروثة تاريخياً تعتمد على عامل الزمن بوصفه إحدى أهم أدواتها الاستراتيجية، وهي تراهن على أن استمرار الحرب بالإيقاع الذي تختاره سيرهق أوروبا، وأن الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي ستتعمق مع تراكم التكاليف. وتدرك موسكو أن اختراقاً سياسياً في أوروبا لن يكون سريعاً، لكن تراكم مؤشرات التعب كفيل بتغيير المزاج العام، وفتح الباب أمام قنوات اتصال أضيق أو تفاهمات موضعية، خصوصاً مع دول أوروبا الوسطى والشرقية، مثل المجر والتشيك وحتى بولندا، إذ بدأت هذه الدول تبحث عن مقاربات أكثر واقعية تجاه جار لا يمكن تجاوزه، حيث تعتمد عليه في مجال الطاقة.

عند هذه النقطة، يبدو مستقبل العلاقة الروسية–الأوروبية رهناً بأزمة قرار داخل أوروبا قبل أن يكون رهناً بموقف موسكو، فالدول الأوروبية ليس في مصلحتها الانزلاق إلى مواجهة شاملة، وفي الوقت ذاته لا تريد أن تمنح روسيا اعتراف «الأمر الواقع» بتقدمها الميداني، أما موسكو فباتت أكثر ثقة بأن علاقتها مع أوروبا ستعاد صياغتها وفق موازين القوة الجديدة، وليس وفق ما كان قبل 2022. وفي قلب هذا المشهد تقف أوكرانيا، ساحة المعركة وساحة الجدال حول مستقبل الأمن الأوروبي.