بعيداً عن صخب المدن الكبرى، وفي أعمق نقطة بنهر "يارلونج تسانجبو" بالتبت، تشرع الصين في بناء وحش هندسي لا يشبهه شيء في تاريخ كوكب الأرض، بتكلفة فلكية تتجاوز 168 مليار دولار.
لا تكتفي بكين بمحاولة توليد طاقة كهرومائية تعادل ثلاثة أضعاف سد الممرات الثلاثة الشهير، بل إنها بصدد نسف التوازن الجيوسياسي في آسيا بالكامل عبر تحويل "خزان مياه آسيا" إلى ملكية خاصة.
ويأتي هذا المشروع في وقت حساس جداً مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث يرى مراقبون أن هذا السد يمثل جبهة صراع سيادية؛ فبناء الصين لـ "محرك طاقة" غير محدود سيعطيها الأفضلية المطلقة في تشغيل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي الضخمة وتطوير الأسلحة ذاتية القيادة، وهو ما تعتبره إدارة ترامب تهديداً مباشراً للتفوق التكنولوجي الأمريكي وخرقاً للتوازنات الأمنية في منطقة المحيطين الهادئ والهندي.
وتعتمد هذه المنظومة الكهرومائية على استغلال ذوبان الأنهار الجليدية في الهيمالايا، مما يضيف بعداً "جيومناخياً" خطيراً لمواجهة القواعد الفيزيائية المعتادة.
وبينما يمثل سد" الممرات الثلاثة "حالياً المحطة الأقوى بإنتاج 100 مليار كيلووات/ساعة، يأتي مشروع "يارلونج تسانجبو" لينسف هذه الأرقام بإنتاج فلكي يصل إلى 300 مليار كيلووات/ساعة سنوياً.
ومن الناحية الهندسية، يوضح لي كيانغ، رئيس الوزراء الصيني ، أن المشروع يعتمد على تقنية "التعديل والتحويل" الثورية، التي تستخدم أنفاقاً ضخمة محفورة داخل الجبال لاستغلال السقوط الحر للمياه من ارتفاع 2000 متر.
وتكمن الإضافة النوعية هنا في أن الصين تواجه تحدي "التغير المناخي" بمقامرة كبرى؛ فذوبان الجليد المتسارع قد يزيد التدفق الآن، لكنه يهدد بجفاف شريان الحياة هذا في المستقبل، مما يجعل المشروع استثماراً انتحارياً ضد قوى الطبيعة.
وتتجلى عبقرية التصميم في استغلال المهندسين لمنعطف "حدوة الحصان" الشهير، وهو ما أكد على أهميته الاستراتيجية يان تشي يونغ، الرئيس السابق لشركة إنشاءات الطاقة الصينية ، موضحاً أن المشروع ليس مجرد محطة كهرباء بل هو مشروع أمن قومي لترسيخ السيادة الصينية فوق سقف العالم.
هذا التصميم يسمح بتوليد طاقة هائلة عبر تفجير أنفاق عملاقة تشق جبال الهيمالايا، لكنه يثير مخاوف برايان إيلر، مدير برنامج الطاقة والمياه والاستدامة في مركز ستيمسون بواشنطن، الذي يصف النظام بأنه "المقامرة التقنية الكبرى" التي قد تنهار أمام "الفيضانات الجليدية المفاجئة" ، وهي ظاهرة ناتجة عن انفجار البحيرات الجليدية الجبلية، والتي قد تحول السد إلى "تسونامي جبلي" يجتاح دول المصب في دقائق معدودة، مدفوعاً بضغط هيدروليكي لا يمكن صده.
ويختم برايان إيلر تحذيراته بالتأكيد على أن غياب التعاون سيحول الهيمالايا إلى ساحة مواجهة مائية، بينما ترى أناميكا باروا، الأستاذة بمعهد التكنولوجيا الهندي، أن غياب الشفافية في البيانات يجعل العالم في حالة عمى تام أمام كارثة وشيكة.
ومع تسارع البناء، يرى ريشي غوبتا، المدير المساعد بمعهد سياسات جمعية آسيا، أن الصين تسابق الزمن لفرض "واقع جيوسياسي" لا يمكن الرجوع عنه.
وفي الجانب السياسي الدولي، تتخوف إدارة دونالد ترامب من تحويل هذه السدود إلى "حصون عسكرية" تحت الأرض؛ فالتجويفات الجبلية الضخمة والأنفاق المحفورة يمكن استخدامها لإخفاء ترسانات عسكرية بعيداً عن أعين الأقمار الصناعية الأمريكية.
ويؤكد دارين ماجي، الأخصائي في شؤون الطاقة الكهرومائية الصينية بجامعة ويسترن واشنطن، أن امتلاك الصين لهذا المصدر يمنحها استقلالية تامة عن سلاسل توريد الطاقة العالمية، مما يحصنها ضد أي عقوبات اقتصادية قد يفرضها ترامب.
وفي المقابل، حذر بيما كاندو، رئيس وزراء ولاية أروناشال براديش الهندية، من أن بكين تمتلك الآن "سلاح التدفق الهيدروليكي"؛ حيث يمكنها تعطيش الهند في أوقات السلم أو إغراقها في أوقات الحرب، وهو تكتيك حربي جديد يخشى الخبراء العسكريون أن يصبح "الواقع الجديد" في النزاعات الحدودية بين القوى النووية.
وبعيداً عن صراعات القوى العظمى، يواجه سكان المنطقة مأساة إنسانية كبرى مع تهجير عشرات الآلاف قسرياً، وهو ما يثير قلق تيمبا غيالتسن زاملا، نائب مدير معهد سياسة التبت في دارامسالا، الذي أكد أن التهجير يهدف لطمس الهوية التبتية واستبدالها بالسيطرة التقنية الصينية.
وتحذر روث غامبل، المؤرخة البيئية والثقافية بجامعة لا تروب الأسترالية، من أن تدمير هذا النظام البيئي سيؤدي لانقراض أنواع نادرة مثل النمر البنغالي الجبلي.
ومع اقتراب اكتمال هذا "الوحش الهيدروليكي"، يجد العالم نفسه أمام منعطف تاريخي لا يقل خطورة عن سباق التسلح النووي؛ فمشروع نهر" يارلونج تسانجبو"ليس مجرد محطة لتوليد الكهرباء، بل هو إعادة رسم لخريطة القوة في آسيا.
ويمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية: الأول هو "الحرب الهيدروليكية" الصامتة، حيث تستخدم بكين صنبور المياه لابتزاز دول الجوار سياسياً.
والثاني هو كارثة "الارتقاء الطبيعي"، حيث يؤدي النشاط الزلزالي إلى انهيار السد وانطلاق "القنبلة المائية" لتدمير المصب.
أما الثالث فهو "الوفاق الإجباري" تحت وطأة ضغوط ترامب، مما قد يجبر بكين على معاهدة دولية لتقاسم المياه. وبغض النظر عن المسار، فإن سد يارلونج تسانجبو أصبح بالفعل نقطة اللاعودة في الصراع الآسيوي، والصاعق الذي قد يشعل فتيل أزمة عالمية كبرى لا تعرف الحدود فوق سقف العالم.
