التشيليون صوّتوا، هذا الأسبوع، لصالح نقل السلطة من اليسار إلى اليمين، وبدا المشهد كأنه خروج عن المسار الذي سلكته البلاد خلال العقدين الماضيين. غير أن هذا التحوّل، عند وضعه في سياقه اللاتيني الأوسع، لا يبدو قطيعة مع تراث القارة البوليفارية، بقدر ما هو حلقة في سلسلة تقاليد سياسية ترسّخت منذ مغادرة دولها حقبة العسكرتاريا، قوامها اختبار أداء السلطة لا منحها «شيكاً على بياض».

بعض المحللين يرون أن صعود هذا التيار قد يعيد تشيلي إلى مسارات تصادمية، ويفاقم الانقسام داخل البرلمان والمجتمع المدني، وأن التصويت الأخير يعكس إحباطاً شعبياً آنياً أكثر منه دعماً مطلقاً لبرنامج اليمين، لكنّه خيار الشعب، والشعب سيد نفسه، يختار شيئاً الآن ونقيضه غداً.

أمريكا اللاتينية المتّكئة على إرث سيمون بوليفار ليست قارة بلا ذاكرة، بل واحدة من أكثر مناطق العالم تشبّعاً بالتجارب العميقة من حروب الاستقلال وحتى جمهوريات ما بعد العسكرتاريا.

القارة تشكّل وعيها السياسي على قاعدة الشك المشروع في السلطة، لا الثقة العمياء بها.في تشيلي، الذاكرة حيّة؛ ففي سنة 1973 أطاح الجنرال أوغستو بينوشيه الرئيس المنتخب سلفادور أليندي وسط حمام دم، لتدخل البلاد حقبة حكم عسكري استمرت حتى 1990، واتسمت بالقمع المنهجي، والاختفاء القسري، وإعادة تشكيل البلاد وفق منطق أمني واقتصادي صارم.

لكن تلك الصفحة لم تُغلق من دون حساب. ففي 1998، أُوقف بينوشيه في لندن بناءً على مذكّرة قضائية إسبانية.وبين 2006 و2010 ثم 2014 و2018، اعتلت ميشيل باشيليت رئاسة الجمهورية، وهي ابنة ضابط قضى تحت التعذيب في سجون نظام بينوشيه. لم يكن ذلك فعلاً انتقاماً رمزياً، بل تعبير عن قدرة الشعب على إعادة ترتيب علاقته مع ماضيه من دون شطبه، ومع السلطة بلا ارتهان لها.

هذا النمط لا يقتصر على تشيلي؛ ففي فنزويلا، انتُخب هوغو شافيز رئيساً للمرة الأولى عام 1998، ثم أُعيد انتخابه عامي 2000 و2006. وعندما أطاحه انقلاب عسكري في أبريل 2002، لم تصمد السلطة الجديدة سوى 48 ساعة، قبل أن يتدخل الشارع مباشرة ويعيد شافيز من سجنه إلى قصر الرئاسة.

صحيح أن بعض المحللين تحدثوا عن تركيز السلطة الفنزويلية في يد الرئيس، وعما سموه التوازن المؤسسي الهش الذي يهدد استقرار المؤسسات على المدى الطويل إذا لم يتم تقوية الآليات الرقابية،

لكن الشعب هو الفيصل وليس المحللين من يتحدثون نيابة عنه.في نيكاراغوا، خسر دانييل أورتيغا السلطة انتخابياً عام 1990، وبقي خارجها قرابة 17 عاماً، قبل أن يعود إلى الرئاسة عبر صناديق الاقتراع عام 2007.

ولم تكن تلك العودة تكراراً ميكانيكياً للماضي، بل نتاج مراجعات فرضها تغير المجتمع وتبدّل المزاج العام.الصبر السياسيأما البرازيل، فقد مثّلت اختباراً للصبر السياسي. لولا دا سيلفا حكم البلاد بين 2003 و2010، ومع انتهاء ولايتيه الدستوريتين، خاضت نائبته ديلما روسيف الانتخابات الرئاسية عام 2010 وفازت بها، ثم جددت فوزها في 2014.

غير أن ولايتها الثانية قُطعت في 2016 عبر عملية عزل برلمانية استندت إلى اتهامات إجرائية متعلقة بالموازنة، واصفين الإجراءات من بعض المحللين بأنها دستورية، في حين رأى آخرون أنها كانت تهدف إلى تقويض شرعية الحكومة سياسياً.وفي 2018،

أُودع لولا السجن بعد «إدانته» بتهم فساد، ما حال دون ترشّحه للرئاسة، لكن المحكمة العليا ألغت الأحكام في 2021، ليعود ويفوز بالرئاسة عام 2022، في مشهد يظهر قدرة النظام على تصحيح مساره رغم الانحناءات السياسية.

وفي بوليفيا، منذ صعود إيفو موراليس عام 2006، مروراً بإقصائه عام 2019، ثم عودة حزبه إلى السلطة في 2020، يتكرر النمط ذاته: تأرجح سياسي لا تحسمه الشعارات بقدر ما يحسمه الأداء، وقدرة السلطة على تلبية المطالب الاجتماعية.ما يجمع هذه التجارب أن شعوب أمريكا اللاتينية خبرت الفاشيات العسكرية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي،

وخرجت منها بوعي سياسي عميق. فهي تُسقط حكوماتها حين تخذلها، وتمنح الفرص حين تتردّد، ولا تتورع عن إعادة قوى سبق أن أسقطتها إذا فشل البديل. وهي شعوب لها معاييرها وديمقراطيتها النابتة من تربتها،

وتنتخب مصلح أحذية (لولا) وعامل كاكاو (موراليس) وسائق حافلة (مادورو)، ومع ذلك لا تمنحهم حصانة دائمة.في أمريكا اللاتينية، لا أحد يحكم طويلاً ضد مزاج الناس، ولا أحد يُقصى إلى الأبد.خطوة إلى الوراء قد تحدث... لكن المسار، في منحاه العام، يتقدّم.