لم تعد العولمة، كما عرفها العالم منذ نهاية الحرب الباردة، حقيقة مستقرة أو مساراً أحادي الاتجاه؛ فالسنوات الأخيرة شهدت تراكم أزمات كبرى تنوعت بين مالية، وصحية، وجيوسياسية، وتكنولوجية، جعلت من السؤال حول "نهاية العولمة" سؤالاً مشروعاً في مراكز القرار قبل قاعات البحث، غير أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في ما إذا كانت العولمة قد انتهت، بل في بديلها وقدرته على ملء الفراغ الثقافي والحضاري.

العولمة التي تشكّلت في تسعينيات القرن الماضي قامت على فرضية مركزية: أن تحرير الأسواق، وتعميق الاعتماد المتبادل، وتراجع الدولة القومية لصالح السوق العالمي، سيقود تلقائياً إلى عالم أكثر استقراراً وازدهاراً. هذا التصور عبّر عنه بوضوح الصحفي والكاتب الأميركي توماس فريدمان في أطروحته الشهيرة "العالم مسطّح"، حيث بدت الحدود عائقاً مؤقتاً في طريق السوق الحرة.

لكن هذا النموذج، كما يقرّ اليوم اقتصاديون مثل جوزيف ستيغليتز (الحائز نوبل في الاقتصاد)، لم يكن بلا كلفة؛ إذ خلق تفاوتاً اجتماعياً عميقاً داخل الدول، وترك قطاعات واسعة تشعر بأنها خاسرة من الانفتاح غير المنضبط، وهو ما مهّد لصعود الشعبوية والحمائية في الغرب نفسه.

ظل مسار العولمة في طريق ممهد، حتى اصطدمت بالسياسة والأمن القومي، ليحدث تحول جذري مع تفجر الأزمة المالية العالمية عام 2008 والتي كشفت عن هشاشة النظام المالي المعولم، كما أشار صندوق النقد الدولي في مراجعاته اللاحقة. تلك الأزمة لم تكن سوى إنذار مبكر، لتأتي الضربة الأعمق بعدها بعشر سنوات تقريباً متمثلة في جائحة كورونا، التي كشفت نقطة ضعف جوهرية في رأسمالية العولمة، وهي اعتماد الدول المتقدمة على سلاسل إمداد طويلة ومتركزة جغرافياً، خصوصاً في الصين.

لم تفتأ العولمة تتلقى الضربة تلو الأخرى، حيث جاءت الضربة الثالثة مع اندلاع حرب روسيا وأوكرانيا التي كشفت أن الطاقة والغذاء والتكنولوجيا لم تعد سلعاً اقتصادية فحسب، بل أدوات ضغط جيوسياسي. أوروبا، التي كانت ترى في التجارة ضمانة للسلام، وجدت نفسها رهينة الغاز الروسي. والولايات المتحدة، التي بشّرت بالعولمة، أعادت فرض الرسوم الجمركية، وقيود التصدير، ودعمت صناعاتها المحلية بمئات المليارات، كما في قانون الرقائق والعلوم.

كل ذلك أدى إلى ظهور مفهوم "تفكك العولمة " في الدراسات الأكاديمية، عضدتها تقارير منظمة التجارة العالمية ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلصت إلى أن التجارة لم تنهر، لكنها تغيّرت في طبيعتها واتجاهاتها؛ إذ باتت أكثر إقليمية، وأكثر ارتباطاً بالتحالفات السياسية، وأقل انفتاحاً على الخصوم.

وفيما يرى المؤرخ الاقتصادي آدم توز بأن العالم دخل مرحلة «تسييس العولمة»، حيث لم تعد الأسواق محايدة، بل ساحة صراع بين القوى الكبرى، يذهب المفكر السياسي فرانسيس فوكوياما إلى أن ما نعيشه هو انتقال من عالم "العولمة الليبرالية" إلى عالم "الدول القوية ذات الاقتصاد المنفتح المشروط"، أي أن الدولة لم تعد عائقاً أمام العولمة، بل أصبحت منظمها الأول.

قواعد جديدة

رغم كل مظاهر الانكفاء التي أظهرتها الولايات المتحدة وبعض دول الغرب الأوروبي بوصول أحزاب اليمين الشعبوية، فإن القول بانتهاء العولمة كلياً يتجاهل حقائق صلبة؛ فالبيانات الرقمية، والتكنولوجيا، والأسواق المالية، لا تزال مترابطة على نحو غير مسبوق، ويؤكد تقرير لصندوق النقد الدولي صدر عام 2024 أن الاقتصاد العالمي لا يشهد تفكيك العولمة بل "إعادة توجيه لها".

من تجليات ذلك ما يمكن نطلق عليه "عولمة انتقائية"؛ فالولايات المتحدة مثلاً تعيد بناء سلاسل الإمداد ضمن ما تسميه "دولاً صديقة". فيما تطور الصين نموذج الاعتماد الذاتي المزدوج، كما شرحه الرئيس شي جين بينغ في استراتيجية "الدورتين". ومن جهته يحاول الاتحاد الأوروبي الموازنة بين الانفتاح وحماية السيادة الاقتصادية.

وعلى الهامش من ذلك تسعى الدول المتوسطة، منها دول عربية والهند وتركيا، إلى استثمار التنافس الدولي بدل الوقوع ضحية له، عبر تنويع الشراكات وعدم الاعتماد على محور واحد.

والظاهر أن الدول المؤثرة في العالم لا تنكفئ على نفسها بقدر ما تعيد تعريف دورها؛ فهي لا تغادر النظام العالمي، لكنها تسعى إلى إعادة هندسته بما يخدم أمنها القومي ومكانتها، لتكتب بذلك نهاية المرحلة الساذجة من العولمة، ودخول مرحلة أكثر صلابة وارتباطاً بالقوة والسيادة.