يقف الشاب «م»، البالغ من العمر 33 عاماً، شاهداً حياً على قوة الإرادة وقدرة الروح الإنسانية على التجدد. رحلته من براثن الإدمان المظلمة، التي ابتلعته في سن المراهقة المبكرة، إلى منارة أمل تنير دروب المتعافين، ليست مجرد قصة شخصية، بل صرخة مدوية تدعو إلى فهم أعمق لآفة تهدد نسيج مجتمعاتنا.
يوم 21 ديسمبر 2021، تاريخ محفور بمداد من نور في ذاكرة «م»، لم يكن مجرد نهاية لمرحلة مظلمة، بل كان ميلاداً جديداً لإنسان آمن بقدرته على التغيير، قبل أن يجد نفسه أسيراً لعالم المخدرات، كانت روحه الشابة تتمزق تحت وطأة سلوكيات انتحارية، ندوبها لا تزال تحكي فصولاً من يأس مبكر.
«رأيت الأمر سهل المنال في دائرة مريحة، فدخلت عالم التعاطي وشعرت بنشوة زائفة استمرت»، يقول «م» بصوت يقطر ألماً، إنه لم يكن وحده في هذه الدوامة، بل وجد نفسه رفقة 3 من الأقارب، ليغرقوا معاً في مستنقع الإدمان الذي ابتلع حياتهم تدريجياً.
«لم أكن متقبلاً لحياتي، وظننت أن التعاطي سيجد لي مخرجاً، لكنني لم أدرك أن الحياة مليئة بالاختبارات والمشاكل»، يضيف «م»، كاشفاً عن جذور الوجع التي قادته إلى هذه الهاوية.
فالسجن أصبح محطة متكررة في رحلة الضياع، والتعاطي وسيلته الوحيدة ليتمكن من الاستمرار، تفكك أسرته، وابتعاد والدته، ورفض أخيه الأكبر، كلها كانت محطات قاسية دفعته إلى حياة التشرد، محاطاً ببيئة لا تعرف سوى لغة المخدرات.
سنوات طويلة قضاها «م» في عالم اللاشعور، يخمد أوجاع روحه بالمسكنات المدمرة. حتى مرض والده بالسرطان لم يكن كافياً لانتزاعه من قبضتها، يقول: «كنت أذهب إلى المستشفى وأتعاطى لأتشجع وأدخل عليه، لكنني لم أكن أدخل قط، خوفاً من كل شيء».
نجا مرات عديدة من جرعات زائدة، وواجه صمت والدته المكسور على الهاتف، حتى وفاة والده مرت كصاعقة باردة، لم يشعر بفقدانه كما يشعر الآخرون، «مفعول المخدر جعلني بلا شعور، والكل ينظر باستغراب كيف لا أبكي على أبي».
في أعماقه، كانت بذرة الرغبة في التغيير تنمو ببطء. رحلة العمرة لم تكن كافية لانتشاله من الظلمات، العودة إلى أرض الوطن كانت بداية البحث الحقيقي عن النجاة. يقول: «بحثت في جوجل ووجدت مركز إرادة للعلاج والتأهيل في دبي، اتصلت وطلبت الحصول على أقرب موعد». الخوف تملكه عند الوصول، لكن الإصرار على التغيير كان أقوى. المرة الثانية ذهب بمفرده، قاطعاً كل سبل التراجع.
في المركز وجد «م» الحضن الدافئ الذي افتقده طويلاً، يقول: «الاسم كان محفزاً، ولا أنسى الممرضين والطاقم الطبي الذين بذلوا كل الجهد»، فترة إزالة السمية والتأهيل كانت بمثابة ولادة جديدة.
لأول مرة أتكلم مع الناس دون تعاطٍ، تعلمت أن أكون اجتماعياً وتأقلمت وبدأت أتعافى. الخروج من المركز لم يكن نهاية الرحلة، بل بداية مرحلة جديدة من الالتزام والمراجعات المستمرة.
«الإدمان مرض مزمن، لكنني فخور بأنني متعافٍ اليوم وأساعد الآخرين، بصدق مؤلم». اجتماعات المتعافين، والجهد المستمر لتغيير السلوكيات السلبية المتجذرة، هي أدواته في هذه المعركة المستمرة، يقول: «تغيير السلوك من الداخل ليس أمراً سهلاً، لكنني أدرب نفسي يومياً».
اليوم يعمل «م» في مركز إرادة، في القسم الذي استقبله يوماً ما طالباً للمساعدة، ثم أصبح إدارياً فيه، قصته ليست مجرد شهادة على قوة التعافي، بل دعوة صادقة لكل من يصارع الظلام، أن يمد يده طلباً للنجاة، الرسالة هنا واضحة: «من كان بحاجة إلى النصيحة، فليلجأ إلى المركز، فهو يؤهلهم للأفضل».