لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتسلية أو تبادل الأخبار، بل تحولت إلى مسرح كبير، يستعرض فيه الأفراد الجانب المثالي من حياتهم؛ مثل الرحلات والنجاحات والابتسامات الدائمة، لكن خلف هذه الصور المشرقة تقف أسئلة ملحة، أهمها: إلى أي مدى تعكس هذه المشاهد الواقع؟ وكيف تؤثر على الصحة النفسية لملايين المتابعين؟
يؤكد خبراء ومختصون، لـ«البيان»، أن الإفراط في متابعة المؤثرين وحسابات «الحياة المثالية»، يولّد لدى الكثيرين شعوراً بالمقارنة المستمرة بين حياتهم وبين ما يسمى «السعادة الوهمية» التي يرونها على حسابات المشاهير، ما يقود إلى الإحباط وعدم الرضا عن الذات، فبينما يرى المتابع أن الآخرين يعيشون في رفاهية وهناء، قد يعزز ذلك شعوره بالحرمان أو الفشل.
وشددوا على أهمية توعية أفراد المجتمع لاسيما فئة الأطفال والشباب والمراهقين، ووضعوا 6 مقترحات لتلافي الآثار النفسية والاجتماعية والتربوية عليهم وهي: تفعيل دور المدارس والجامعات، تفعيل دور الأسرة، تشجيع ثقافة التوازن بين العالم الافتراضي والواقعي، إبراز قصص ملهمة واقعية، تعزيز الوعي الرقمي والإعلامي، تعزيز التفكير النقدي.
مقارنات
ووصفت الدكتورة لينة أميري طبيب نفسي تخصص أطفال ومراهقين بدبي، «السعادة الوهمية» على وسائل التواصل الاجتماعي، بأنها إحساس زائف ناجم عن مقارنة الحياة بالصور المثالية والمنشورة بكثرة من قبل الآخرين، بالإضافة إلى مكافآت «الدوبامين» قصيرة الأمد التي تتولد من الإعجابات والتعليقات، مما يؤدي إلى شعور المتابع بالإحباط والوحدة، لأنه لا يرى سوى الجانب المشرق والسطحي لحياة الآخرين، مما يدفعه إلى الاعتقاد بأنه وحده من يعاني.
وحذرت أميري من أن المقارنات المستمرة بين حياتهم وواقعهم وبين هذه السعادة الوهمية التي يتابعونها على مواقع التواصل الاجتماعي، قد تؤدي إلى القلق، والاكتئاب، واضطرابات الأكل، لاسيما بين فئة المراهقين، نتيجة لسعيهم المستمر نحو الكمال بسبب هذه المقارنات.
دور الجامعات
بدورها قالت الدكتورة مينو ماثيو، أستاذ مشارك في علم النفس بجامعة هيريوت وات دبي، إن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أثرت كثيراً في كيفية تفاعل الشباب، لافتة إلى دور الجامعات في توعية الطلبة بأهمية تنظيم استخدامها، وتوعيتهم بخطورة المقارنات بين أنفسهم وبين حياة المؤثرين.
وأضافت أن الطلبة يتعرضون يومياً لمئات المنشورات التي تظهر الثروة والجمال وأنماط الحياة المترفة والمثالية، مشيرة إلى أن أغلبها غير حقيقية، وإنما القصد منها جذب الإعجابات والمتابعين، مشيرة إلى أن المستخدمين يميلون في الغالب إلى مشاركة اللحظات السعيدة والمميزة فقط، والتي بالغ أصحابها في صقلها وتلميعها لتبدو بهذا الشكل، ونادراً ما يشاركون الأيام العادية أو الأوقات الصعبة، وهذه الانتقائية تخلق انطباعاً خاطئاً بأن حياة الآخرين خالية من العيوب.
وقالت ماثيو إن هذا التعرض المستمر لهذه الأوهام قد يؤدي إلى إثارة مشاعر عدم الكفاءة والغيرة والقلق، والتي لا تضر بالأداء الأكاديمي فحسب، بل تضعف أيضاً احترام الذات والثقة بالنفس.
وأضافت أن الأبحاث في مجلة علم النفس الاجتماعي التجريبي أظهرت أن الاستخدام السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى مقارنات سلبية مع الذات وانخفاض الرضا عن النفس والحياة التي يعيشها الفرد.
رفاهية رقمية
وشددت على أهمية دور الجامعات والمدارس لمعالجة مسألة الرفاهية الرقمية، وذلك من خلال ورش عمل ومناقشات صفية تزود الطلبة بمهارات الثقافة الإعلامية، وتعلمهم طريقة التفكير النقدي في المحتوى الإلكتروني، وكيفية تأثيره على نظرتهم الذاتية، وتقديم خدمات استشارية، وتشجيعهم على المشاركة في الأنشطة المجتمعية كالرياضة والفنون الأدائية والحرف اليدوية.
من ناحيتها، أشارت المعلمة إيمان حسين إلى أن الصور والفيديوهات غالباً ما تكون مفبركة أو منتقاة بعناية، ما يجعلها بعيدة تماماً عن الواقع، وترى أن الحل يكمن في نشر التوعية الرقمية بين الطلبة في المدارس، وتعليم الأجيال كيفية التعامل الواعي مع المحتوى.
وترى المعلمة آلاء حسن أن وسائل التواصل الاجتماعي أداة محايدة بحد ذاتها، لكن طريقة استخدامها هي ما يحدد إذا كانت ستصبح جسراً للتواصل الإيجابي أم باباً للإحباط والضغط النفسي، وأشارت إلى أنه يجب أن نتعامل مع «السعادة الرقمية» باعتبارها صورة تجميلية لا أكثر، وأن نركز على صناعة سعادتنا الحقيقية في الحياة الواقعية.
ضغوط مجتمعية
وحول الانعكاسات الاجتماعية للظاهرة يوضح الدكتور جاسم المرزوقي استشاري العلاج النفسي والأسري، أن هناك 6 انعكاسات سلبية على المجتمع تسببها السعادة الزائفة وهي: المقارنات الاجتماعية بطريقة سلبية، تقليص التواصل الحقيقي، زيادة الضغوط النفسية، فقد الخصوصية، اختلال القيم المجتمعية، زيادة العزلة والوحدة.
وأوضح أن انتشار الصور والفيديوهات التي تظهر حياة بعض الأشخاص بطريقة مثالية أو حتى خيالية، تجبر المتابعين على مقارنتها مع حياتهم الشخصية الواقعية، مما يسبب شعوراً بعدم الرضا، حتى لو كانوا يعيشون بشكل طبيعي.
وأضاف أن التركيز على إظهار صورة «سعيدة» للعالم الافتراضي زاد من التفاعل الافتراضي على حساب العلاقات الواقعية، وأصبح الأفراد يعانون مما يسمى بـ«الضغط الاجتماعي» لأنهم يحاولون التظاهر بأنهم سعداء طوال الوقت مما يخلق حالة من الإنهاك النفسي والقلق عند كثير من المتابعين.
وقال المرزوقي: إن مواقع التواصل الاجتماعي أفقدت الكثير من البيوت والعلاقات خصوصيتها، كما أصبح هناك تقديس للمظاهر على حساب الجوهر، وأضحى مستخدمو هذه المواقع يقيسون السعادة بعدد «اللايكات» والمتابعين، مما يدق ناقوس الخطر لأن جيل الشباب والمراهقين يرون أن قيمتهم مرتبطة برأي الآخرين.
سباق الرفاهية
لم تتوقف تداعيات السعادة المصطنعة على مواقع التواصل الاجتماعي عند حدود الأفراد فقط، بل امتدت لتطال الأسر أيضاً، حيث يرى عدد من الأهالي أن هذه السعادة الزائفة تشكل ضغوطاً عليهم لأن أبناءهم من متابعي هذه الحسابات يرغبون باستمرار في تقليد نمط الحياة الافتراضية وأصبحوا ضحايا غير مباشرين لسباق الرفاهية.
وتقول سمر عبدالله (أم لثلاثة من الأبناء)، إنها لاحظت تراجع ثقة ابنتها بنفسها بعدما صارت تقارن يومياً حياتها وصورتها بصور «المؤثرات» على إنستغرام، حتى إنها أصبحت ترفض التقاط صورة من دون فلتر أو تعديل.
أما محمد فوزي فيشير إلى أن ابنه المراهق يعيش ضغوطاً نفسية مستمرة لأنه يشعر أن حياته أقل قيمة من حياة أقرانه الذين يظهرون على السوشيال ميديا وهم يسافرون ويرتادون مطاعم فاخرة، مشيراً إلى أن ابنه أصبح يعتقد أن النجاح يقاس بعدد المتابعين وليس بالاجتهاد الحقيقي.
بينما عبر الجد ناصر أكرم عن أسفه لأن جلسات العائلة فقدت دفئها، إذ ينشغل الأبناء والأحفاد بالتقاط الصور وتزيين اللحظات لنشرها، بدلاً من الاستمتاع باللحظة نفسها.
وحول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، يقول الطالب نور محمد: أحياناً أشعر أن حياتي مملة مقارنة بما أتابعه من حياة الآخرين على«إنستغرام»، الذين يسافرون ويستمتعون في المطاعم والمقاهي والهدايا التي تصلهم من كل مكان، مما يشعرني بالإحباط وأنني ليس لدي شيء أشاركه على حساباتي.
أما يوسف عبدالفتاح فيرى أن السعادة على السوشيال ميديا مجرد وهم وأن الواقع مختلف، مشيراً إلى أنه قريب من أحد المؤثرين واكتشف أن حياته عادية جداً وتختلف تماماً عما يظهره على مواقع التواصل الاجتماعي.
