في زمن تتسارع فيه الخطى نحو الشيخوخة، يقف العلاج الطبيعي كجدار وقاية صلب، لا يحمي فقط من آلام ما بعد الإصابات، بل يُعيد تعريف مفهوم التقدّم في العمر، من معركة مع الوهن إلى رحلة نحو الاستقلالية. وبينما تكشف الإحصاءات أن برامج التأهيل قادرة على خفض نسب السقوط والمضاعفات لدى كبار السن بشكل لافت، لا تزال تحديات مثل ضعف تغطية التأمين تحول دون الاستفادة الكاملة منها، وسط دعوات متزايدة للنظر إلى العلاج الطبيعي كاستثمار في «شيخوخة صحية» لا كرفاهية مؤجلة لما بعد الأذى أو الإصابة.
وفي اليوم العالمي للعلاج الطبيعي، الذي يوافق الثامن من سبتمبر من كل عام، تتجدد الدعوة لوعي أعمق بهذه المهنة النبيلة، التي لا تكتفي بإعادة الحركة، بل تبث الأمل وتمنح الثقة، وتشارك في صنع مستقبل أكثر أماناً وإنسانية لكبارنا الذين كانوا يوماً سنداً، ويستحقون اليوم منّا كل رعاية واهتمام، حيث يحمل شعار هذا اليوم لهذا العام «الشيخوخة الصحية»، ليعيد التأكيد على أن هذه المهنة ليست مجرد أداة علاجية لما بعد الإصابات، بل ركيزة أساسية لحياة أكثر صحة وأماناً مع التقدم في العمر.
أطباء واختصاصيون في العلاج الطبيعي يؤكدون أن الاستثمار في برامج الوقاية والتأهيل قادر على تقليل خطر السقوط بنسبة 23 %، وخفض مشكلات الوهن بنسبة 41 % لدى كبار السن، وفق ما تشير إليه شعبة العلاج الطبيعي بجمعية الإمارات الطبية، ورغم هذه النتائج، ما زالت محدودية تغطية التأمين الصحي واحدة من أبرز التحديات، إذ يغطي العلاج بعد وقوع الإصابة أو السقوط، لكنه لا يشمل غالباً البرامج الوقائية، في وقت تشير فيه منظمة الصحة العالمية إلى أن النشاط البدني قادر على منع ما بين 4 إلى 5 ملايين إصابة سنوياً وتوفير ما يزيد على 27 مليون دولار من تكاليف العلاج.
وقاية
وأوضحت الدكتورة ابتسام التهامي، رئيسة قسم العلاج الطبيعي بمستشفيات السعودي الألماني، أن أهمية العلاج الطبيعي تكمن في كونه وقاية قبل أن يكون علاجاً، فهو ليس مجرد جلسات تعقب العمليات أو الإصابات، وإنما فلسفة حياة متكاملة تقوم على الحفاظ على الاستقلالية، الحركة، والنشاط، مضيفة أن كل خطوة آمنة اليوم، هي استثمار في غد أفضل، وأن هذه الرسالة الملهمة تختصر ما يعنيه العلاج الطبيعي بالنسبة لكبار السن، فهو يعزز توازنهم، يقوي عضلاتهم، يرفع مرونة مفاصلهم، ويمنحهم القدرة على القيام بالأنشطة اليومية بسهولة وأمان.
وأضافت أن دوره لا يقتصر على الجوانب البدنية فحسب، بل يمتد إلى الجوانب النفسية والاجتماعية، إذ يسهم في رفع الثقة بالنفس وتقليل الاعتماد على الآخرين، كما يخفف من الألم المزمن الناتج عن أمراض مثل التهاب المفاصل أو مشكلات العمود الفقري، ويعزز صحة القلب والدورة الدموية من خلال التمارين الموجهة.
وترى التهامي أن السقوط لدى كبار السن ليس حادثاً بسيطاً يمكن تجاوزه، بل حدث قد يغيّر مجرى حياتهم، لأنه يؤدي إلى كسور الورك التي تحتاج عادة إلى تدخل جراحي، أو كسور العمود الفقري نتيجة هشاشة العظام وما تسببه من آلام وتشوهات، فضلاً عن إصابات الرأس بما قد تحمله من ارتجاجات أو نزيف دماغي، ناهيك عن فقدان الاستقلالية وتدهور الصحة العامة بسبب قلة الحركة وفترات النقاهة الطويلة، مشددة على أن العلاج الطبيعي يتدخل عبر برامج تمارين خاصة لزيادة التوازن والقوة العضلية، والتدريب على تقنيات المشي واستخدام الأدوات المساعدة بأمان، عطفاً على أنشطة المقاومة الخفيفة لزيادة كثافة العظام، وتوعية الأسر بتهيئة بيئة منزلية آمنة، وإعادة التأهيل بعد الإصابات لاستعادة الحركة الطبيعية بأسرع وقت.
وقالت إن قطاع العلاج الطبيعي في الإمارات يشهد تطوراً ملحوظاً، حيث تقدم المراكز والمستشفيات برامج متقدمة وتحرص على تنظيم فعاليات توعوية بالتزامن مع هذا اليوم العالمي، كما تتبنى الدولة مبادرات لرعاية كبار السن، بما يعكس رؤيتها في تعزيز جودة الحياة والصحة المستدامة، معتبرة الاحتفال بالمناسبة دعوة مفتوحة للمجتمع بأن العلاج الطبيعي ليس رفاهية، بل أداة وقائية وحياتية تحفظ لكبار السن حيويتهم وتقلل من معاناتهم، وأنه عبر الاستثمار في هذه المهنة النبيلة، يمكن المساهمة في بناء مستقبل صحي وشيخوخة نشطة مليئة بالاستقلالية والأمل.
بدوره، أكد الدكتور أحمد الخير، استشاري الطب الفيزيائي وإعادة التأهيل، أن الحفاظ على استقلالية كبار السن يمثل تحدياً صحياً عالمياً، وأن العلاج الطبيعي يعد حجر الأساس في دعم هذه الفئة العمرية، وليس مجرد تمارين أو أجهزة، بل هو رحلة إنسانية تهدف إلى تمكين كبار السن من الاعتماد على أنفسهم، عبر جلسات لتحسين قوة العضلات، تقليل الألم، وتعليم كيفية الوقاية من السقوط داخل المنزل أو خارجه.
ويرى أن التدخل المبكر من قِبل الاختصاصيين يمتد ليشمل برامج وقائية مصممة خصيصاً للحد من مخاطر السقوط وتحسين نوعية الحياة لدى كبار السن نتيجة ازدياد خطر الإصابة وصعوبة الحركة والقدرة على الاستقلالية، مثل هشاشة العظام التي تزيد من قابلية التعرض للكسور حتى عند السقوط البسيط، ضعف العضلات الذي يؤدي إلى قلة التوازن وصعوبة القيام بالأنشطة اليومية كالجلوس والقيام أو صعود الدرج، مشكلات المفاصل المزمنة مثل خشونة الركبة أو آلام أسفل الظهر، واضطرابات التوازن الناتجة أو أمراض الأعصاب الطرفية.
وأشار الخير إلى أن الكثيرين يعتقدون أن العلاج الطبيعي يستخدم بعد الإصابة فقط، لكن الحقيقة أنه وسيلة للوقاية قبل أن يكون علاجاً، فمن خلال برامج موجهة يمكن تقليل احتمالية السقوط بنسبة تصل إلى 40 %، وتحسين نوعية الحياة بشكل ملحوظ، وتشمل هذه البرامج تدريبات القوة لتحسين الكتلة العضلية، تمارين التوازن والمشي للحد من فقدان الاستقرار، العلاج المائي كوسيلة آمنة وفعّالة لتعزيز الحركة، وخطط فردية لإعادة التأهيل بعد الكسور أو العمليات الجراحية.
وذكر أن الإمارات تشهد تقدماً ملحوظاً في تعزيز خدمات العلاج الطبيعي، من خلال إدماجه في المستشفيات، والمراكز المجتمعية، وخدمات الرعاية المنزلية، كما يجري تنظيم فعاليات توعوية لتعريف المجتمع بدور العلاج الطبيعي في دعم كبار السن، انسجاماً مع توجهات الدولة لتعزيز جودة الحياة وهو ما يعكس اهتمام الدولة بكبار المواطنين.
وأكدت الاختصاصية صافيناز محمود أن التغيرات الجسدية والوظيفية التي ترافق التقدم في العمر، مثل ضعف الكتلة العضلية، انخفاض مرونة المفاصل، بطء ردود الأفعال، إضافة إلى الأمراض المزمنة مثل هشاشة العظام أو مشكلات العمود الفقري، تجعل كبار السن أكثر عرضة للسقوط والإصابات الخطيرة، ومن هذا المنطلق تجزم بأن العلاج الطبيعي يلعب دوراً محورياً لا غنى عنه، حيث يساعد على تحسين القدرة الحركية والحفاظ على الاستقلالية في الأنشطة اليومية مثل المشي أو صعود السلالم، ويقي من السقوط الذي يعد من أكبر المخاطر الصحية لهذه الفئة العمرية. وأوضحت أن العلاج الطبيعي يسهم في تخفيف الألم المزمن الناتج عن خشونة المفاصل أو مشكلات العمود الفقري أو التهابات العضلات، ويعزز صحة القلب والتنفس عبر برامج رياضية محسوبة، ويرفع المعنويات ويعزز الصحة النفسية، إذ إن القدرة على الحركة بدون ألم تمنح المسن شعوراً بالثقة والاستقلالية.
وترى الاختصاصية آية عادل أن هشاشة العظام من أكثر الأمراض شيوعاً لدى كبار السن، حيث تصبح العظام أقل كثافة وأكثر هشاشة، ما يجعلها عرضة للكسر حتى مع السقوط البسيط أو الحركات اليومية. وتوضح أن هذا الضعف في البنية العظمية يقترن غالباً بتراجع القوة البدنية والخوف من الحركة، ما يزيد احتمالية السقوط. وأضافت أن العلاج الطبيعي يقدم حلولاً عملية للحد من هذه المخاطر من خلال تقوية العضلات لدعم العظام والمفاصل وتحسين القدرة على التحمل، تحسين التوازن والتنسيق الحركي عبر تدريبات مخصصة تقلل من احتمالية التعثر والسقوط، تثقيف المرضى حول طرق الحركة الصحيحة، الجلوس، النهوض، واستخدام الأدوات المساعدة، إضافة إلى وضع برامج فردية مبنية على تقييم شامل لحالة كل مريض واحتياجاته الخاصة.
وأوضحت أن من أبرز التمارين التي ينصح بها الاختصاصيون: تمارين التوازن مثل الوقوف على قدم واحدة أو المشي بخط مستقيم، تمارين تقوية العضلات وخاصة عضلات الساقين والحوض وأسفل الظهر، تمارين المرونة للحفاظ على حركة المفاصل وتقليل التيبّس، المشي والتمدد اليومي لتعزيز اللياقة البدنية، والعلاج المائي لتقليل ضغط المفاصل. وتؤكد أن العلاج الطبيعي لا يتوقف عند التمارين فقط، بل يشمل جلسات فردية بإشراف متخصصين، واستخدام أجهزة تدريب متطورة مثل أجهزة التوازن وكرات التمارين، إضافة إلى المتابعة المستمرة لتقييم التقدم وتعديل الخطة العلاجية عند الحاجة.
تحديات
بدورها، أوضحت نعيمة محمد صالح، رئيسة شعبة العلاج الطبيعي بجمعية الإمارات الطبية، أن كبار السن يواجهون أمراضاً شائعة تحدّ من قدرتهم الحركية واستقلاليتهم، إلا أن إشراف الاختصاصيين يساعد على تجاوز هذه التحديات بسهولة وأمان أكبر. مؤكدة أن التمارين العلاجية مثل تمارين تقوية العضلات، المقاومة بالأوزان، وتمارين التوازن، تقلل من خطر السقوط بنسبة 23 % وتقلل بنسبة 41 % من مشكلات الوهن.
وذكرت أن أبرز التحديات التي تواجه المراكز يتمثل في محدودية تغطية التأمين الصحي، حيث يغطي العلاج بعد الإصابة مثل السقوط أو الوهن، لكنه غالباً لا يغطي برامج الوقاية بالتمارين، وتشير إلى أن تقارير منظمة الصحة العالمية تؤكد أن النشاط البدني يمكن أن يقلل ما بين 4 إلى 5 ملايين حالة إصابة ويوفر ما يزيد على 27 مليون دولار من تكاليف العلاج سنوياً.
من جانبها، أكدت الهنوف محمد الاستاد، نائبة رئيس شعبة العلاج الطبيعي بجمعية الإمارات الطبية، أن موضوع الشيخوخة الصحية يبرز الدور الحيوي للعلاج الطبيعي في تحسين نوعية الحياة مع التقدم في العمر، وتقول إن كبار السن هم بركة الدار، ونشر الوعي بأهمية ممارسة التمارين الرياضية واجب لا يقتصر على فئة عمرية محددة، فالرياضة تسهم في تقليل معدلات السمنة، والسكري، وأمراض القلب، ولها أثر إيجابي طويل المدى على صحة كبار السن، من خلال الوقاية من الإصابات، والحفاظ على كثافة العظام، ودعم الصحة العقلية.
