تمثل مسيرة المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، مدرسة في القيادة والإدارة والتنمية الشاملة، ومسيرة حافلة بالعطاء والبناء، نجح في تحويل دبي إلى مدينة ذات حضور عالمي، عبر مزيج من الرؤية المستقبلية، والاستثمار في الإنسان، وبناء البنية التحتية الحديثة، ولعب دورياً محورياً في قيام الاتحاد وتوطيد علاقات الإمارات مع العالم، وكان قائداً استثنائياً صاحب حنكة إدارية ورؤية استراتيجية سبقت زمانها.

واتسمت بالتخطيط الاستباقي وتحقيق الإنجازات وبناء الإنسان، حيث وضع المغفور له الشيخ راشد بن سعيد أسس نهضة دبي الحديثة وما تشهده الإمارة اليوم من مكانة مرموقة عالمياً هو الثمرة المباشرة لتلك الرؤية التي آمن بها وسعى إلى تحقيقها عبر إحداث طفرة تنموية شاملة في جميع النواحي.

الذكرى 35

ففي السابع من أكتوبر عام 1990 الموافق الثامن عشر من شهر ربيع الأول عام 1411هـ توفي المغفور له الشيخ راشد عن عمر يناهز 78 عاماً، قضاها في خدمة أمته ووطنه ومواطنيه، قدم خلالها الغالي والنفيس وكل ما يملك في سبيل تحقيق مسيرة الخير والنماء والازدهار، واليوم يوافق الذكرى 35 لرحيله.

وكما وصف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، المغفور له الشيخ راشد بن سعيد بأنه مهندس دبي ووالد شعبها: «هكذا العظماء.. لا يغادرون المجد ولا يغادرهم... رحم الله باني دبي.. ومهندسها.. ووالد شعبها».

في ذكرى وفاة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، نستذكر جانباً مهماً من تاريخ النهضة والبناء والتشييد والإنجازات في دبي، إذ استطاع، طيّب الله ثراه أن يقود مسيرة البناء في دبي.

وكان له دور بارز في قيام الاتحاد ومسيرة نهضة الإمارات، طموحاته لا تعرف المستحيل، وإنسانيته يتناقلها الجميع، فإنجازاته جعلته حاضراً في القلوب والعقول، من خلال مسيرة عامرة، شكلت محطات مهمة في تاريخ بناء الدولة، وأفرزت مسارات نوعية في عمليات البناء والتطوير والتنمية.

قائد فذ

ويعد المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، أحد رواد وحدة الإمارات وبناء حضارتها، ومن العظماء الذين حملوا مشاعل التطور والتقدم في دولة الإمارات العربية المتحدة، وصاحب رؤية بعيدة المدى في استشراف المستقبل، وامتاز الشيخ راشد بقدرة نادرة على استشراف المتغيرات الاقتصادية والسياسية في المنطقة والعالم.

كما يعد المغفور له الشيخ راشد بن سعيد أحد أبرز القادة الذين تركوا بصمة خالدة في مسيرة دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو المؤسس الفعلي لنهضة دبي الحديثة وصاحب الرؤية بعيدة المدى التي حولت الإمارة إلى مدينة عالمية تنافس كبريات المراكز الاقتصادية في العالم.

فكان قائداً ذا بعد استراتيجي استشرف المستقبل، واستطاع أن يحول التحديات إلى فرص، وأن يجعل من دبي مختبراً للتنمية والابتكار والتخطيط الحضري المتقدّم، إذ قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، في كتابه الجديد «علّمتني الحياة»:

«رحم الله أبي.. كلما تفكرت في حنكة أبي وحكمته... وحياته وسيرته.. أدركت كم تعلمت منه.. وكيف تأثرت بشخصيّته.. تعلمت من أبي بساطة العيش.. وضبط النفس.. وألا أنشغل بالتفاهات ولا أصدق ضعاف العقول والتافهين».

مسيرة البناء

ارتبط الشيخ راشد بمجلس أبيه وتعلم منه كيفية إدارة المنطقة وتسيير أمورها وكان مطّلعاً على كل ما يحدث في هذا المجلس ليتعرّف إلى أمور الحكم ويتدرّب على تحمل المسؤولية من بعد والده، وقد عُيّن الشيخ راشد ولياً للعهد عام 1939، وساند والده في تسيير شؤون المنطقة، وأثبت جدارته في تحمل المسؤولية.

وكان عوناً لأبيه في شتى المجالات، وخصوصاً في الشؤون الاقتصادية، وأسهم في تحسين المعيشة، الأمر الذي أكسبه شعبية وحباً من المواطنين، ومن المأثور عنه قوله: «ما هو مفيد للتجار، مفيد لدبي».

وقاد الشيخ راشد مسيرة التغيير والبناء في دبي، مسطراً صفحات حافلة بالإنجازات والعطاء، وكان صاحب البصمة الأولى في تأسيس دبي الحديثة، حيث وضع الأسس المتينة للمشاريع الكبرى، وشكّل حجر الزاوية لتطور البنى التحتية والعمران والتجارة، وسخر ما توفر من إمكانات في ذلك الوقت لخدمة وطنه وأبناء شعبه.

فكانت جهوده سيرة عطرة لا تزال منارة تهتدي بها الأجيال جيلاً بعد جيل، وكرس حياته لخدمة الإمارات، مضحياً بالغالي والنفيس من أجل رخاء أبنائها واستقرارها وازدهارها، ولا يزال نبراساً تقتدي به الأجيال حتى يومنا هذا، ويبقى حاضراً في وجدان أبناء الإمارات وبصمة جلية في سجل دولة الإمارات ومسيرتها التنموية.

وحرص الشيخ راشد بن سعيد على المتابعة اليومية للأعمال والمشاريع وكانت ضمن جدول أعماله اليومي، إذ حرص على القيام بجولتين في مدينة دبي يومياً يتابع فيهما المشاريع.

ويطلع على أدق التفاصيل لأي مشروع قيد التنفيذ في الإمارة، ويتابع كل شيء بنفسه خطوة خطوة، وكانت هذه الجولات فرصة للالتقاء بعامة الناس عن قرب والاستماع إليهم وتلبية مطالبهم.

وبعد عودته من جولاته اليومية كان يمضي كثيراً من الوقت في أعماله الرسمية من خلال مجلسه ويلتقي الناس ويشاركهم قضاياهم ويصغي لمطالبهم ويعمل على تلبيتها، وكانت هذه القيم مداد منظومة حكمه وتفوق دبي، إذ يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في كتابه الجديد «علّمتني الحياة»:

«تعلمت من أبي ألا أتصيد الأخطاء.. وألا أبحث عن زلات الناس، وأن أتغافل أحياناً.. وألفت النظر بلطف أحياناً أخرى، وخاصة مع من تأكدت من إخلاصهم وحبهم وتفانيهم في أعمالهم».

مشاريع تنموية

أدرك المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، أن أولى أولوياته هي تلبية احتياجات الناس وتوفير الخدمات الأساسية لهم، وتولّى مسؤولية قيادة دبي وكان تركيزه منصباً على بناء الإنسان والاستثمار في طاقات أبناء شعبه، إلى جانب استغلال الإمكانات والفرص المتاحة في تلك المرحلة لتأمين حاضر مشرق ومستقبل واعد للإمارة. وأثمرت جهوده تحويل دبي إلى مدينة عالمية متفردة تتصدر مشهد الريادة والتنمية في المنطقة.

وخلال سبعينيات القرن الماضي، عرفت دولة الإمارات عامة، ودبي خاصة، نهضة عمرانية واسعة، إذ نجح الشيخ راشد في وضع اللبنات الأولى لمسيرة الاستقرار والرخاء والتنمية المستدامة.

وبخبرته السياسية استطاع أن يقود دفة الحكم في الإمارة بحنكة واقتدار، ثم كرّس هذه الخبرة لاحقاً أثناء توليه رئاسة مجلس الوزراء بعد قيام الاتحاد، فشهدت دبي في عهده نقلة نوعية على مستوى البنية التحتية والاقتصاد.

ولم تكن مشاريع الشيخ راشد مجرد استجابة آنية للحاجات، بل ترجمت رؤية استراتيجية لبناء مدينة حديثة ومستدامة، ومن أبرز إنجازاته في قطاع النقل والمواصلات شق الطرق الحديثة، وبناء الجسور لربط شطري الإمارة، وتوسيع خور دبي ليصبح ركيزة أساسية للحركة التجارية.

كما أعلن عن مشروع مطار دبي الدولي، واختار موقعه في القصيص لقربه من مركز المدينة، وافتتحه رسمياً في 30 سبتمبر 1960، لتتبع دبي سياسة «السماء المفتوحة» التي جعلتها مركزاً محورياً للطيران في المنطقة، وبدأ المطار صغيراً لكنه سرعان ما أصبح مركزاً إقليمياً وعالمياً بفضل التخطيط المبكر.

وفي 1976 انطلقت الأعمال الإنشائية لميناء جبل علي الذي افتُتح عام 1979 ليصبح أحد أضخم الموانئ في العالم، بينما شهد عام 1972 افتتاح ميناء راشد البحري، الذي دعم الاقتصاد الوطني وعزز مكانة دبي التجارية عالمياً، والذي شكل نقطة انطلاق دبي نحو العالمية في قطاع الشحن.

ويسجل للشيخ راشد أنه كان سبّاقاً في إدخال الخدمات الحيوية، إذ أسس شركة الكهرباء العامة عام 1959، ليصل أول تيار كهربائي إلى دبي في 1961، وأطلق إلى جانبها شركة الهاتف والبرق واللاسلكي عام 1960، متابعاً بنفسه تفاصيل عملها بصفته رئيساً لمجلس إدارتها.

ولم يقتصر اهتمامه على البنية التحتية، بل سعى إلى تطوير القطاع المالي والمصرفي، فاستقطب في عام 1954 «إمبريال بنك أوف إيران» الذي أصبح لاحقاً البنك البريطاني للشرق الأوسط، واشترط في اتفاقية الإنشاء أن يتم تشغيل موظفين من أبناء دبي.

وبعدها عرفت دبي الازدهار الاقتصادي. ثم أصدر عام 1963 مرسوماً بتأسيس أول بنك وطني وهو «بنك دبي الوطني المحدود» برأس مال مليون جنيه إسترليني، منهياً بذلك الاعتماد الكامل على المصارف الأجنبية.

وحرص الشيخ راشد على بناء مشاريع الإسكان والبنية التحتية من طرق حديثة وجسور وشبكات كهرباء ومياه، ما حسّن مستوى معيشة السكان، كما بنى المستشفيات والمدارس، مثل مستشفى راشد الذي يعد من أكبر المستشفيات الحكومية في المنطقة، ما يعكس اهتمامه بالصحة والتعليم ركيزتين للتنمية.

وفي مجال الإسكان، أولى الشيخ راشد اهتماماً خاصاً بتأمين مساكن ملائمة للمواطنين، فأنشأ عام 1960 دائرة الأراضي والأملاك، ليصبح ملف الإسكان جزءاً من خططه التنموية الشاملة.

وكان الشيخ راشد بن سعيد طيب الله ثراه قائداً صاحب رؤية بعيدة المدى، إذ حرص على تعزيز موقع دبي كمركز تجاري بين الشرق والغرب، وجذب الاستثمارات والشركات العالمية، وتشجيع التجار المحليين على توسيع أعمالهم. وبفضل هذه الرؤية الثاقبة، رسّخ دعائم اقتصاد قوي جعل من دبي نموذجاً يحتذى به في النمو والازدهار.

دروس ملهمة

ولا تزال دبي تستلهم الدروس من فكر ورؤية الشيخ راشد بن سعيد وأعماله ونهج قيادته الذي انعكس في نجاح تجربته التنموية التي اتسمت بالرؤية المستقبلية، من خلال إدراكه المبكر أهمية التنويع الاقتصادي والانفتاح على العالم.

والتخطيط الاستراتيجي، إذ كانت قراراته تأتي ضمن منظومة خطط مدروسة تترجم رؤية ثاقبة في بناء الوطن والمواطن، وتحرص على الاستثمار في الإنسان، عبر التعليم والصحة والإسكان كركائز أساسية. كما حرص على تعزيز دور الاتحاد وخدمة التنمية طويلة الأمد.

يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، في كتابه الجديد «علّمتني الحياة»: «كان أبي بعيد النظر، دقيق البحث في كل الأمور، لا يحب العجلة.. ولكنه إذا عزم على أمر لم يتردد ولم يشك ولم يرتبك عند اتخاذ القرار».

تمكين

وكان الشيخ راشد بن سعيد، طيب الله ثراه، يؤمن بأن بناء الإنسان يسبق بناء الحجر، وحرص على توفير التعليم لأبناء دبي وتشجيعهم على الانخراط في مجالات الإدارة والاقتصاد والهندسة.

كما وفر فرص العمل والتدريب، وأرسى سياسة إسكان ميسّرة لضمان استقرار الأسر المواطنة، وكان يرى في تمكين المواطن الضمان الحقيقي لاستمرار مسيرة النهضة.

لذلك لم يقتصر اهتمامه على البنية التحتية المادية بل شمل التنمية الاجتماعية والاقتصادية، واضعاً نصب عينيه رفاهية المواطنين والارتقاء بجودة حياتهم وتوفير العيش الكريم والاستقرار الأسري لهم.

الاتحاد

ويُعد الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، واحداً من أبرز القادة الذين أسهموا في بناء صرح دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ كان شريكاً أساسياً في فكرة الاتحاد أنه لا بد من قيام الاتحاد بين الإمارات التي تجمعها سمات مشتركة تمثلت في وحدة التاريخ والجغرافيا والثقافة والعادات والتقاليد والملامح السياسية.

فعمل ورفيق دربه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانهما حكام الإمارات على تأسيس الدولة. وتم الإعلان رسمياً عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني من ديسمبر 1971 برئاسة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ونائبه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وبفضل خبرته الاقتصادية وتخطيطه العمراني، ساهم في وضع الأسس لاقتصاد اتحادي قوي يعتمد على تنوع الموارد.

ودعم المشاريع المشتركة التي عززت من قدرة الاتحاد على النهوض السريع، وأسهم في بناء الدولة وتدعيم الاتحاد وعمل يداً بيد مع إخوانه حكام الإمارات على دفع عجلة التقدم والتنمية وتحقيق الرخاء للمواطنين.

خدمة الوطن

وترك الشيخ راشد بن سعيد وراءه سجلاً من الأعمال والإنجازات التي حازت احترام العالم لقائد تفانى في خدمة وطنه وتحقيق حلم الاتحاد. كما لعب الشيخ راشد دوراً محورياً في ترسيخ علاقات الإمارات الناشئة مع الدول العربية والإسلامية والعالمية.

الأمر الذي منح الاتحاد الجديد مكانة دولية مرموقة منذ سنواته الأولى، فحرص على الانفتاح على العالم العربي، وعمل على توثيق العلاقات مع الدول العربية، ودعم مواقف الوحدة العربية والقضايا القومية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

وحرص على تقوية العلاقات مع دول الخليج والدول الأخرى وبرزت اهتماماته في مناقشة قضايا أمته وشعبه العربي والإسلامي، وأبرزها قضية احتلال الجزر الثلاث، والقضية الفلسطينية والحرب العراقية الإيرانية، ودعا إلى إنشاء مجلس يضم دول الخليج العربي.

كما حرص على بناء جسور تعاون مع الدول الإسلامية وركز على التضامن الإسلامي قاعدة لدور الإمارات في العالم، وبناء شراكات اقتصادية وتجارية عالمية.

حيث استفاد من موقع دبي الاستراتيجي لجعلها بوابة للتجارة العالمية، ما عزز صورة الإمارات دولة منفتحة على الاستثمار، وشجع على إقامة شراكات تجارية مع دول أوروبا وآسيا وأفريقيا، ما أعطى الاتحاد مكانة اقتصادية متنامية.

نهج

وتبنى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد، طيب الله ثراه، سياسة خارجية متوازنة، تقوم على نهج الاعتدال والحياد الإيجابي في السياسة الخارجية، ما أكسب الإمارات احترام المجتمع الدولي، ودعم مبدأ الحوار والتعاون بدلاً من الصراع، وهو ما انعكس على استقرار الدولة ونموها.

رحل الشيخ راشد بن سعيد، طيب الله ثراه، تاركا إرثاً كبيراً سيبقى من أهم العلامات المضيئة في مسيرة دولة الإمارات التنموية وترك نموذجاً في الحكمة السياسية والقيادة الاستشرافية، أسس لسياسة خارجية مرنة جعلت الإمارات دولة جاذبة ومؤثرة في محيطها، ودعم جهود الشيخ زايد في أن تكون الإمارات صوتاً للحكمة والتوازن في المنطقة والعالم.

قائد استثنائي صاحب حنكة إدارية ورؤية استراتيجية سبقت زمانها

مسيرة عامرة ومشاريع أسست لنهضة دبي

رؤية جعلت الإمارة تنافس كبريات المراكز الاقتصادية العالمية