شكلت حادثة تدمر، التي أسفرت عن مقتل ثلاثة أميركيين وإصابة جنود من الطرفين، اختباراً أمنياً وسياسياً بالغ الحساسية لمسار التقارب الناشئ بين الولايات المتحدة وسوريا، خصوصاً أنها وقعت في مرحلة انتقالية دقيقة تشهد إعادة تشكيل شاملة لمعادلات السلطة والأمن في البلاد.
وقبل أسابيع قليلة من حادثة تدمر، جاء إعلان انضمام سوريا رسمياً إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «داعش» تحولا سياسيا وأمنيا لافتا في مسار العلاقات مع الولايات المتحدة، إذ مثل خروجا واضحاً من مرحلة التعامل غير المباشر والمحدود، إلى مرحلة الشراكة المعلنة ضمن إطار دولي تقوده واشنطن. هذا الانضمام عكس اعترافاً متبادلاً بضرورة بناء مقاربة مشتركة لمواجهة خطر أمني عابر للحدود، في لحظة كانت فيها الدولة السورية تخوض عملية إعادة تأسيس مؤسساتها الأمنية والعسكرية بعد سنوات من التفكك والصراع.
عملياً، عنى هذا الانضمام إدخال سوريا، للمرة الأولى منذ عقود، في منظومة تنسيق استخباراتي وعسكري متعددة الأطراف، تتيح تبادل المعلومات، وتوحيد أولويات الاستهداف، وربط الجهد المحلي بالقدرات الدولية للتحالف. كما حمل رسالة سياسية مزدوجة: داخلياً، مفادها أن الحكومة السورية الجديدة باتت جزءاً من معادلة الأمن الإقليمي والدولي؛ وخارجياً، بأن واشنطن ترى في دعم هذا المسار خياراً أقل كلفة وأكثر استدامة من إدارة التهديد عبر ترتيبات تتجاوز الدولة السورية، فكان الحل هو أن تكون الدولة السورية شريكاً في الحرب على الإرهاب.
في السياق الحالي، بعد حادثة تدمر، تكتسب هذه الخطوة دلالة مضاعفة. فالهجوم شكّل أول اختبار دموي عملي للشراكة الناشئة، وأعاد طرح السؤال الجوهري حول مدى صلابتها في مواجهة الصدمات. غير أن تمسّك واشنطن بخيار الاحتواء وعدم التراجع يؤشر إلى أن الانضمام السوري للتحالف جزءاً من مقاربة استراتيجية ترى أن معالجة التهديدات المتطرفة تمر عبر دمج الدولة السورية الجديدة في منظومات الأمن الجماعي، لا عبر عزلها أو تركها تواجه الخطر منفردة. من هذا المنظور، تبدو حادثة تدمر، رغم خطورتها، عاملاً دفع نحو تثبيت المسار أكثر مما هدد بإجهاضه.
الهجوم، الذي نفذه عنصر متطرف واستهدف اجتماعاً أمنياً رفيع المستوى في المدينة الأثرية، صدمة ذات أبعاد رمزية وسياسية، بالنظر إلى مكان وقوعه وتوقيته وطبيعة الشخصيات المستهدفة، وما يحمله ذلك من دلالات على هشاشة البيئة الأمنية في بعض المناطق، رغم التغيرات السياسية التي شهدتها البلاد.
ورغم الوقع الثقيل للحادث على الرأي العام الأميركي والمؤسسة العسكرية، سارعت واشنطن إلى تبديد أي انطباع بإمكانية تراجعها عن مسار التعاون القائم مع دمشق. فقد أكدت الإدارة الأميركية، في أكثر من موقف رسمي، أن ما جرى لن يؤدي إلى مراجعة جذرية للانخراط الأميركي في سوريا، ولن يبدّل الاتجاه العام الذي تم اعتماده بعد سقوط النظام السابق، والقائم على دعم الحكومة السورية الجديدة في مواجهة التحديات الأمنية المعقدة، وفي مقدمتها خطر تنظيم «داعش» ومحاولاته المستمرة لاستغلال الفجوات الانتقالية وإعادة إنتاج نفسه كلاعب تخريبي.
البيانات الصادرة عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكذلك عن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم باراك، عكست بوضوح خيار الاحتواء السياسي والأمني للحادث، والتعامل معه بوصفه خرقاً خطيراً يستدعي المعالجة والتدقيق، لكنه لا يمس جوهر الشراكة التي بدأت تتبلور بين الطرفين. وقد شددت هذه المواقف على أن انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «داعش» يشكل الركيزة الأساسية للعلاقة الراهنة، وأن الرد العملي على الهجوم لن يكون عبر تقليص التنسيق أو التراجع عنه تحت ضغط الصدمة، بل من خلال تعميقه وتعزيز آلياته الاستخباراتية والميدانية، ورفع مستوى تبادل المعلومات والتخطيط المشترك.
وفي هذا السياق، اكتسبت تصريحات الرئيس الأميركي أهمية خاصة، حين سُئل مباشرة عقب مقتل الأميركيين الثلاثة: «ماذا تفعلون في سوريا؟»، فأجاب بوضوح لافت: «لأننا نسعى جاهدين لضمان استمرار السلام في الشرق الأوسط، وسوريا جزء لا يتجزأ من ذلك. الرئيس الشرع رجل قوي، وهو ما تحتاجه المنطقة. من المذهل ما حدث في سوريا، تم التخلص من الأسد وأشخاص سيئين آخرين، وتمكنا من تحقيق سلام حقيقي في الشرق الأوسط».
تعكس هذه العبارات، بصيغتها المباشرة وغير الملتبسة، انتقال الخطاب الأميركي من موقع التحفظ الحذر إلى موقع الرهان السياسي الواضح على القيادة السورية الجديدة، وربط الاستقرار الإقليمي بإعادة إدماج سوريا في منظومة الأمن الإقليمي والدولي.
ويعكس هذا النهج إدراكاً أميركياً بأن أي تراجع سريع تحت ضغط حادثة أمنية، مهما كانت مؤلمة، من شأنه أن يبعث برسائل خاطئة إلى الفاعلين المحليين والتنظيمات المتطرفة على حد سواء، مفادها أن مسار التعاون قابل للاهتزاز، وأن كلفة استهدافه قد تكون أقل من كلفة استمراره. كما أن التراجع في هذه اللحظة تحديداً قد يُقرأ بوصفه فشلاً في إدارة المرحلة الانتقالية، لا بوصفه قراراً تكتيكياً محسوباً. من هنا، يبدو أن واشنطن اختارت تثبيت المعادلة الجديدة، حتى وهي تواجه أول اختبار دموي لها، واضعةً في الحسبان أن الاستمرارية، لا الارتداد، هي ما يحد من فرص تكرار مثل هذه الهجمات.
ومن زاوية أوسع، يكشف حادث تدمر عن طبيعة المرحلة الانتقالية المعقدة التي تمر بها سوريا، حيث تتقاطع محاولات إعادة بناء الدولة ومؤسساتها مع استمرار تهديدات أمنية عابرة للمناطق والانتماءات، وتحديات تتجاوز القدرة المحلية وحدها على الاحتواء. كما يسلط الضوء على الرهان الأميركي الواضح على أن دعم الحكومة السورية الجديدة، رغم مخاطره، يبقى أقل كلفة سياسياً وأمنياً من ترك البلاد ساحة مفتوحة لصراعات محلية وتنظيمات متطرفة قد تعيد إنتاج الفوضى على نطاق أوسع، وتعيد سوريا إلى نقطة الصفر بعد كل ما شهدته من تحولات.
