يشكّل إدراج بند إلغاء «قانون قيصر» ضمن مشروع قانون الدفاع الوطني الأميركي للعام المالي 2026 نقطة تحوّل في مسار العلاقة بين واشنطن ودمشق منذ عام 2011. فبعد ست سنوات من تطبيق نظام عقوبات واسع النطاق شمل قطاعات الطاقة والمصارف والإنشاءات والبنى التحتية، يتجه هذا الإطار التشريعي إلى نهايته لأول مرة، بما يعيد سوريا إلى وضعية مختلفة تماماً ضمن النظام المالي والاقتصادي العالمي.

ولا يقتصر إلغاء قيصر على رفع القيود القانونية عن التعامل مع سوريا، بل يمثل انتقال أميركي من سياسة الخنق الاقتصادي إلى سياسة «الرقابة المشروطة»، بما يجعل سوريا أمام مرحلة جديدة تؤسس لاندماج سياسي واقتصادي تدريجي.

ويعني إلغاء قانون قيصر، في المستوى الاقتصادي المباشر، إزالة الخطر القانوني عن الشركات الأجنبية، خصوصاً الخليجية والأوروبية، التي امتنعت طوال السنوات الماضية عن الدخول في مشاريع الطاقة والكهرباء والمرافئ والاتصالات والمصارف خشية العقوبات الثانوية. ومع زوال هذا العائق، تصبح قطاعات واسعة كانت مجمّدة بشكل كامل قابلة للاستثمار، وعلى رأسها قطاع الكهرباء الذي يحتاج إلى إعادة بناء شبه شاملة، وقطاع الإسمنت الذي تعطل بفعل استحالة استيراد المعدات، إضافة إلى مشاريع الطرق والمرافئ والمطارات والمصافي. كما يتيح الإلغاء عودة التمويل الدولي لأول مرة منذ 2011، إذ لم تكن سوريا قادرة على الوصول إلى قروض أو برامج تنموية من مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بسبب القيود القانونية المرتبطة بقيصر، فيما يفتح الإلغاء الباب أمام طلب تمويل لمشاريع بنى تحتية كبرى في مجالات المياه والصحة والنقل والطاقة، بما يسمح بعودة تدريجية إلى الدورة الاقتصادية الدولية.

وفي المستوى المالي والنقدي، يمهّد الإلغاء لتخفيف الضغط على الليرة السورية عبر إدخال العملة الأجنبية بطرق نظامية، إذ يمكن للتحويلات والاستثمارات والمساعدات التقنية أن تتم عبر النظام المصرفي وليس عبر السوق السوداء فقط. وهذا يخلق بيئة أقل هشاشة، ويقلّل كلفة التعاملات، ويعيد جزءاً من الثقة المفقودة في المؤسسات المالية. كما يساهم في تقليل الاعتماد على طرق الالتفاف بفعل العقوبات، ويفتح الباب أمام نماذج أكثر استقراراً لإدارة الموارد، خصوصاً في مرحلة إعادة الإعمار.

ترافق الإلغاء مع آلية مراقبة تمتد لأربع سنوات، يلتزم فيها البيت الأبيض برفع تقرير إلى لجان الكونغرس كل 180 يوماً يتناول التزام الحكومة السورية بمجموعة معايير تُعتبر جوهر التحوّل المطلوب أميركياً. وتشمل هذه المعايير مكافحة تنظيم داعش والتنظيمات المتطرفة، واتخاذ خطوات ملموسة في ملف الاعتقال والمفقودين، واحترام حقوق الأقليات الدينية والقومية، وعدم شنّ عمليات عسكرية ضد دول الجوار، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عراقيل، والتعاون مع آليات الأمم المتحدة ذات الصلة، إضافة إلى اتخاذ خطوات سياسية داخلية يراها الكونغرس مدخلاً لتسوية قابلة للاستمرار. ولا يؤدي الإخلال بهذه المعايير إلى عودة تلقائية للعقوبات، لكنه يمنح الكونغرس القدرة على إعادة فرضها إذا رأى أن مسار التغيير يتراجع.

وتشير طبيعة هذا التحول إلى أن سوريا تتجه نحو مرحلة التكيف مع البيئة الدولية الجديدة. فالإلغاء يعيد توجيه بوصلة الاستثمار نحو أصدقاء سوريا الذين يمتلكون القدرة والرغبة في لعب دور مركزي في إعادة الإعمار، كما يحدّ من تغوّل النفوذ الخارجي الضار الذي توسع خلال فترة الانعزال الاقتصادي بحقبة نظام الأسد المخلوع.

ومن المتوقع أن يؤدي هذا الانفتاح إلى تسريع مشاريع الكهرباء والطاقة والمرافئ والغاز، التي بدورها توفّر أساساً مادياً لاستقرار سياسي واجتماعي لا يمكن تحقيقه بغير اقتصاد فعّال. ومع الزخم العربي المتزايد منذ مطلع 2025، يصبح إلغاء قيصر خطوة مكملة لمسار استعادة سوريا لموقعها ضمن النظام العربي، خصوصاً مع استعداد للدخول في مشاريع استراتيجية، كانت مستحيلة قانونياً قبل هذا التحوّل.

وتتجه البلاد في ظل إلغاء قيصر نحو توازن جديد بين ضرورات الاستقرار الداخلي ومتطلبات الانفتاح الخارجي. فالاقتصاد السوري الذي ظلّ محاصراً لأكثر من عقد يقف اليوم أمام مرحلة انتقالية تحتاج إلى سياسات أكثر انضباطاً، وإلى قدرة على إدارة تدفق الاستثمارات دون خلق احتكارات أو مسارات غير إيجابية.

الاتجاه العام يميل نحو مرحلة عنوانها عودة سوريا إلى شبكة المصالح الدولية بعد سنوات من الانقطاع، وبداية انتقال من اقتصاد العقوبات إلى اقتصاد المصالح.