شهدت السياسة الخارجية السورية خلال العام الذي أعقب سقوط النظام تحولاً جذرياً في تموضعها الإقليمي، إذ انتقلت تدريجياً من وضعية الارتهان لمحورين غير عربيين، إيران وروسيا، إلى وضعية إعادة بناء عمقها العربي، سواء من بوابة الخليج أو من خلال إعادة هندسة علاقتها بدول الجوار المباشر. هذا التحول لم يكن نتاج قرار مفاجئ بقدر ما كان ضرورة فرضتها بنية المرحلة الانتقالية التي قادها الرئيس أحمد الشرع، حيث تبيّن أن الخروج من الظلال الثقيلة للتحالفات السابقة شرطٌ أساسي لانتشال الدولة السورية من العزلة وإعادة فتح خطوط الاستثمار والتجارة، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا عبر البعد العربي.

فمنذ اللحظة الأولى لتولي السلطة الجديدة، بدا أن دمشق تعمل على إعادة صياغة معادلة علاقاتها الخارجية انطلاقاً من ثلاثة محاور مترابطة: تحرير القرار الوطني من الارتهان غير العربي، إعادة تموضع ضمن النظام العربي، وتحسين سياسة الجوار.

لقد أدركت القيادة السورية الجديدة أن إعادة بناء الدولة بعد الانهيار تتطلب مصادر قوة لا تمتلكها التحالفات السابقة: رأس المال، القدرة على فتح قنوات الاستثمار، إعادة تأهيل البنى التحتية، والعودة التدريجية للأسواق. ومع هذا الإدراك، جرى التعامل مع دول الخليج باعتبارها بوابة التعافي. وقد أدى هذا التحول إلى تحرير القرار السياسي السوري من الهيمنة التي فرضتها سنوات الاحتراب، وسمح بتبني مقاربة جديدة أكثر اتزاناً في العلاقة مع القوى غير العربية، وهذا التحول لم يكن ممكناً قبل أن تستعيد سوريا الغطاء العربي الذي يوفر لها توازناً في علاقاتها الإقليمية.

أما في سياسة الجوار، فقد كان التحول أكثر عمقاً مما ظهر على السطح. إذ اعتمدت القيادة الجديدة مقاربة تقوم على تبريد الجبهات بدل توسيعها، واعتبار أن استقرار العلاقات مع الأردن ولبنان والعراق وتركيا شرطٌ لبناء الداخل لا تفصيلاً خارجياً. ففي العلاقة مع الأردن، لعبت دمشق دوراً أكثر انفتاحاً في ملف مكافحة التهريب، وقدّمت إشارات إلى أنها مستعدة لتنسيق أمني مستدام يمنع انزلاق الحدود الجنوبية إلى ما كانت عليه في سنوات الفوضى. ومع العراق، أعادت سوريا تطوير مفهوم «العمق المتبادل»، عبر فتح الباب أمام مشاركة عراقية في مشاريع النقل والطاقة، بما يعيد تشكيل الجغرافيا الاقتصادية للمشرق بعيداً عن الانقسامات ذات الطابع الطائفي التي سادت في العقد الماضي.

ومع هذا كله، كان التحرر من التأثيرات غير العربية واضحاً في إعادة صياغة الخطاب السياسي السوري تجاه المنطقة. فبعد سنوات طويلة كان فيها الخطاب مرهوناً بلغة محاور خارجية، عاد الخطاب السوري ليركّز على مفاهيم «الأمن الإقليمي المشترك»، و«التنمية عبر الشراكة». وبذلك انتقل الموقف السوري من «استراتيجية البقاء عبر الحماية الخارجية» إلى «استراتيجية الاستعادة عبر الانفتاح العربي»، وهو ما جعل السياسة الخارجية جزءاً من مشروع إعادة بناء الداخل، لا مجرد أداة للعلاقات مع الخارج.

بهذا المعنى، لم يكن الانفتاح العربي لدمشق خطوة تكتيكية بل منعطف استراتيجي، أعاد سوريا إلى مسارها الطبيعي داخل محيطها العربي، وفتح أمامها فرصة لتأسيس سياسة خارجية أكثر استقلالية وقدرة على الموازنة بين المصالح، بعيداً عن ثقل المحاور التي كبّلتها طيلة عقدين. ومع مرور عام على هذا التحول، يبدو أن سوريا بدأت تكتسب موقعاً إقليمياً جديداً، قائماً على القرب العربي، بما يعيد رسم صورة الدولة التي تبحث عن إعادة تعريف مكانها في الإقليم.