شهدت سوريا خلال العام الذي تلى سقوط نظام الأسد منذ 8 ديسمبر 2024 سلسلة من التحولات الأمنية العميقة التي تداخل فيها مساران متوازيان: مسار إعادة بناء منظومة أمنية جديدة بعد حل الأجهزة السابقة التي ظلت لعقود ركيزة النظام المنهار، ومسار إنهاء الحالة الفصائلية التي تشكلت خلال سنوات الحرب وتحولت إلى واقع عسكري–اجتماعي متجذر في عدد من المناطق.

وقد كشف هذا التوازي بين المسارين أن الانتقال الأمني في سوريا عملية سياسية بامتياز ترتبط بتوازن القوى، وبطبيعة المشهد المحلي، وبقدرة السلطة على فرض نموذج جديد من العلاقة بين الدولة والمجتمع، ففي الأسابيع الأولى بعد السقوط، اتجهت الحكومة الانتقالية نحو تفكيك البنى الأمنية للنظام المخلوع عبر حل الأفرع الأمنية الأساسية، وبدء عملية فرز للعناصر غير المتورطين بانتهاكات. ورغم مخاطر الفراغ الأمني إلا أن جاهزية القوى المنتصرة ضد نظام الأسد حالت دون مثل هذا الفراغ، فقد تم فرز المسلحين إلى قطاعات جديدة تتناسب مع الحاجات، وفتح باب التطوع. ومثّل خطوة لا بد منها لتأسيس منظومة محايدة وذات طابع مهني. وفي الوقت نفسه، بدأت عملية بناء مؤسسات أمنية جديدة، أبرزها جهاز الأمن الوطني بوصفه إطاراً تنسيقياً لا جهازاً تنفيذياً، وقوة الأمن العام التي انتشرت تدريجياً في المدن الرئيسية وحالت دون حدوث عمليات انتقامية، إلى جانب إنشاء وحدات متخصصة لمكافحة الإرهاب، كانت ضرورية في ظل اتساع نشاط تنظيم «داعش» في البادية.

تحديات

هذا التحول واجه منذ البداية تحديات متعلقة بالانتشار الجغرافي وصعوبة بسط السيطرة في المدن الثانوية والمناطق الريفية، حيث ظلت التشكيلات المحلية والعشائرية تمتلك نفوذاً يفوق قدرة المؤسسات الجديدة على ضبطه. وقد حققت الحكومة الانتقالية نجاحات واضحة في الحد من الجريمة المنظمة، وفي تفكيك شبكات التهريب المرتبطة ببقايا النظام، ومكافحة تجارة الكبتاغون، وفي إعادة ضبط الأمن في المحاور الحيوية داخل المدن الكبرى، إلا أن هذه النجاحات بقيت غير مكتملة بفعل استمرار الثغرات الأمنية على أطراف البلاد، وتباطؤ برامج الدمج وإعادة التأهيل الأمني، وغياب تفاهم شامل مع القوى العسكرية المسيطرة في الشرق السوري. وفي موازاة ذلك، كان مسار إنهاء الحالة الفصائلية يمثل تحدياً أكبر من بناء المنظومة الجديدة نفسها، إذ كان المشهد الميداني لحظة سقوط النظام موزعاً بين فصائل معارضة في الشمال، وقوات محلية في السويداء، وتشكيلات عشائرية في دير الزور والرقة، وهيئة تحرير الشام في إدلب، إضافة إلى قوات سوريا الديمقراطية في منطقة الجزيرة، فضلاً عن بقايا الميليشيات المرتبطة بالنظام السابق. ولأن أي انتقال سياسي لا يستقر من دون وحدة السلاح، بدأت الحكومة الانتقالية برنامج دمج مرحلي اعتمد ثلاث خطوات: حصر السلاح الثقيل بيد الجيش الجديد، وتحويل الفصائل إلى وحدات عسكرية نظامية تخضع لوزارة الدفاع أو الداخلية، وتدريبها وفق معايير موحدة بإشراف أوروبي، لكن هذه العملية واجهت تفاوتاً كبيراً في الاستجابة بين منطقة وأخرى.

وقد كان من أبرز النجاحات انضمام عدد من فصائل شمال غرب سوريا إلى الجيش الجديد، وتوسيع انتشار الشرطة العسكرية، وانطلاق برامج مهنية في مناطق الجنوب لضبط التشكيلات المحلية ضمن أطر شرطية غير مسيّسة.

شوط كبير

ومع مرور عام على التغيير، تبدو الخلاصة أن مسار بناء المنظومة الأمنية الجديدة قطع شوطاً مؤسسياً مهماً. وعلى مستوى الاستقرار العام، شهدت المدن الكبرى تحسناً ملحوظاً في مستويات الأمن بفضل انتشار الشرطة الجديدة وإغلاق الكثير من مسارات اقتصاد الظل، بينما بقيت الريف والبادية مناطق هشّة بفعل نشاط «داعش» وتداخل القوى المحلية وتحديات الحدود. أما منطقة الجزيرة، فظلت تمثل العقدة الرئيسية في المشهد الأمني بسبب تشابك الملف الأمني مع ملف الترتيبات السياسية، وارتباطه بوجود «قسد». ويرجّح، بناءً على المعطيات الراهنة، أن يتحدد مسار العام الثاني بين ثلاثة احتمالات: الأول هو الاستقرار التدريجي في حال أُنجزت تفاهمات بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، والثاني هو الجمود الأمني إذا بقيت المناطق الخارجة عن هيكل الدولة دون حلول سياسية–أمنية واضحة، والثالث هو صدام مسلح داخلي بين القوى غير المتوافقة والمسلحة.