تعمل السلطات السورية على رأب الصدع الاجتماعي بعد سلسلة من المواجهات العنيفة التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الماضية، بدءاً من أحداث الساحل السوري في مارس الماضي، مروراً بتوترات متفرقة في بعض المحافظات، وانتهاء بمواجهات دامية في محافظة السويداء في يوليو، وذلك وسط استمرار مخاطر الاشتعال على جبهة شرق الفرات، حيث تتمركز قوات سوريا الديمقراطية «قسد».

وجاء موقف الحكومة السورية لافتاً في تعاطيه مع التقرير الأممي المستقل بخصوص أحداث الساحل، والذي خلص إلى وجود انتهاكات واسعة ارتكبتها فصائل موالية للحكومة وأخرى من فلول النظام المخلوع، لكنه لم يربط هذه الانتهاكات بالقوات الحكومية بسبب غياب الأدلة الكافية.

ورحبت دمشق بنتائج التقرير، معتبرة إياه فرصة لإثبات التزامها بمبدأ المحاسبة، حيث توعد المسؤولون بملاحقة كل مرتكبي هذه التجاوزات «أياً كانت الجهة التي ينتمون إليها»، في رسالة داخلية وخارجية تعكس رغبة في احتواء التوترات ومنع تجددها.

وأصدرت الحكومة نتائج تحقيق منفصل بشأن العنف على الساحل السوري، تم إجراؤه بأوامر من الحكومة، الشهر الماضي، حيث خلص إلى أن بعض أفراد الجيش السوري ارتكبوا انتهاكات واسعة النطاق وخطيرة ضد المدنيين.

ولكن لا يوجد دليل على أن قادة الجيش أمروا بشن هذه الهجمات، وتوصل التحقيق الحكومي إلى أن أكثر من 1400 شخص، معظمهم من المدنيين، قُتلوا في أعمال العنف.

انفتاح

وتأتي هذه المرونة الحكومية في سياق محاولة أوسع للانفتاح على الداخل بعد أسابيع من التأزيم الخطير، خصوصاً مع سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى في أحداث السويداء، التي دفعت عدداً من دول الإقليم إلى التحرك الدبلوماسي..

فقد استضافت كل من الأردن وتركيا اجتماعات مغلقة ضمت وفوداً من الحكومة السورية وأطرافاً دولية، في إطار مساعٍ لوقف العنف، ووضع أسس لتسوية محلية أوسع.

كما عاد ملف الانتقال السياسي السوري إلى طاولة مجلس الأمن الدولي، وسط معادلات سياسية جديدة، من أبرزها القلق الذي عبّرت عنه الصين بشأن ملف المقاتلين الأجانب وخطر التنظيمات الإرهابية، في إشارة واضحة إلى أن الملف السوري لم يعد محصوراً في أبعاده المحلية، بل بات جزءاً من الأمن الإقليمي والدولي. لكن يبقى ملف الحوار بين دمشق و«قسد» من أكثر القضايا غموضاً وحساسية في المشهد السوري الراهن..

فبعد أيام من تصريح مصدر حكومي بأن دمشق لن تشارك في اجتماعات باريس المزمع عقدها مع قيادة «قسد»، أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بياناً أوضحت فيه أنها لم تتلقَ أي إشعار رسمي بالتأجيل أو طلب عدم الحضور من أي طرف، مؤكدة أن التحضيرات للاجتماع جارية، وأن تحديد الموعد الرسمي متوقع خلال الأسبوع المقبل.

انتقادات

وكانت دمشق قد وجهت انتقادات لاذعة للإدارة الذاتية و«قسد» بعد تنظيم مؤتمر الحسكة الذي جمع ممثلي عدد كبير من المكونات والقوى السياسية السورية، وشاركت فيه شخصيات من خارج مناطق شرق الفرات التي تسيطر عليها «قسد»..

لكن التوترات هدأت لاحقاً بعد زيارة قامت بها مسؤولة العلاقات في الإدارة الذاتية، إلهام أحمد، إلى دمشق ولقائها بوزير الخارجية، أسعد الشبياني، حيث تم الاتفاق على تهدئة التوترات لكن بدون توقيع أي اتفاقيات.

وقد يشكل نجاح الحكومة في معالجة ملف «قسد» نقطة تحول تاريخية، إذ إن إدماج هذه القوات، بما تملكه من نفوذ ميداني وقدرات تنظيمية، في بنية الدولة السورية، سيمثل أكبر تغيير سياسي وأمني منذ سقوط نظام الأسد، وقد تفتح مثل هذه الخطوة -إذا ما تحققت- الباب أمام تسويات محلية أوسع، وتعيد رسم خارطة السلطة على الأرض، بما ينعكس على الملفات الإقليمية المرتبطة بسوريا من أمن الحدود إلى ملف اللاجئين إلى دور القوى الدولية في البلاد.