دخلت سوريا في 2024، مرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخها الحديث، معلنة نهاية حقبة دامت أكثر من عقد من الصراع الدموي، تحت نظام الرئيس بشار الأسد، والذي شكّل سقوطه نقطة تحول جذرية، تطلق العنان لموجة من التحديات المعقدة، التي من شأنها تحديد ملامح المستقبل السوري لعقود قادمة.

ما بين انهيار البنية العسكرية، وتصدّع المجتمع السوري، وبين تدخلات خارجية متزايدة، تقف سوريا اليوم على حافة خيارات مصيرية، قد تؤدي إلى الاستقرار، أو تعيدها إلى دوامة الفوضى.

سوريا في عام 2024، شهدت منعطفاً تاريخياً حاسماً، يُعد الأبرز منذ اندلاع الحرب بالبلاد في عام 2011. فقد انتهت سنوات الصراع الطويلة بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وهي لحظة تحمل في طياتها تغيراً جذرياً في المشهد السوري الداخلي والخارجي، على حد سواء.

تحديات

المرحلة التي أعقبت سقوط النظام مثقلة بالتحديات؛ فعلى المستوى الداخلي، تواجه البلاد مشهداً مشحوناً بالفوضى، مع تفاقم التحديات الأمنية التي كانت ولا تزال في صدارة المشهد، لا سيما أن خلايا تنظيم «داعش» عادت لتنشط في بعض المناطق النائية، مستغلة الفوضى الأمنية، وانشغال الفصائل المعارضة بترتيب أوضاعها السياسية.

التحديات الخارجية لا تقل وطأة، فقد استغلت إسرائيل انهيار النظام السوري، لتكثيف ضرباتها الجوية، مُعلنة هدفها المتمثل في القضاء التام على القدرات العسكرية السورية. وفي تطور آخر، بسطت إسرائيل سيطرتها على المنطقة العازلة في الجولان بشكل شبه كامل، وهو ما اعتبرته الحكومة المؤقتة انتهاكاً للسيادة السورية.

إلى جانب ذلك، يواجه الاقتصاد السوري تحدياً مروّعاً، يتمثل في انهيار العملة الوطنية. فقد بلغ سعر صرف الليرة السورية مستويات غير مسبوقة (فيما يحاول الارتفاع تدريجياً بعد سقوط النظام)، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية بشكل جنوني. بينما استعادة الاستقرار المالي ستكون رهناً بمساعدات دولية عاجلة، وبناء اقتصاد يعتمد على قطاعات منتجة، بعيداً عن الدعم الخارجي وحده.

سيناريوهات

وفي ضوء تلك المعطيات، فإن مستقبل سوريا اليوم، محاط بسيناريوهات شديدة الضبابية. السيناريو الأول، يتمثل في نجاح الحكومة المؤقتة في التأسيس لنظام سياسي مستقر، وهو أمر يعتمد على قدرتها على توحيد الفصائل المختلفة، وإطلاق عملية إعادة إعمار شاملة بدعم دولي.

السيناريو الثاني، يشير إلى احتمال اندلاع صراعات داخلية، خاصة إذا فشلت الحكومة المؤقتة في تحقيق توافق سياسي. هذا السيناريو قد يؤدي إلى مزيد من التشظي في البلاد، ما يُبقي على سوريا كساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية والدولية.

والسيناريو الثالث، وهو الأكثر قتامة، هو تحول سوريا إلى دولة فاشلة بالكامل، مع تصاعد نشاط الجماعات الإرهابية، وغياب أي سلطة مركزية. هذا السيناريو قد يؤدي إلى موجات جديدة من النزوح الجماعي، ما يُفاقم الأزمة الإنسانية التي يعاني منها الشعب السوري منذ أكثر من عقد.

في ظل هذه السيناريوهات، تبقى سوريا عند مفترق طرق تاريخي. الخيار بين السلام والفوضى، يعتمد إلى حد كبير على قدرة الحكومة المؤقتة على تجاوز التحديات الداخلية، والتعامل مع التدخلات الخارجية بحكمة وفعالية، إلى جانب دور المجتمع الدولي في تقديم الدعم اللازم لإنقاذ البلاد من مزيد من الانهيار.

مشهد معقد

أمين عام هيئة العمل الوطني الديمقراطي في سوريا، محمود مرعي، يقول: «السوريون بحاجة ماسة لإعادة بناء الجيش والشرطة والقضاء والتعليم والصحة، وكل مؤسسات الدولة. وإذا لم تنفتح هذه الجهات (المسيطرة على الحكم الآن) على المجتمع السوري، وتعمل على إشراك جميع أطيافه في عملية إعادة البناء، فإننا نسير نحو خطر التحول إلى دولة فاشلة»، على حد وصفه.

وكان قائد الإدارة الجديدة لسوريا، أحمد الشرع، قد بعث بعدة رسائل خلال الأسابيع الماضية، سعى من خلالها إلى تبديد المخاوف بشأن اتجاهات سوريا المستقبل، غير أن تلك الرسائل لا تزال تواجه شكوكاً من قبل البعض، في ضوء تصاعد المخاطر التي تواجه البلاد.

توحيد الفصائل

واحدة من أهم التحديات التي تواجه سوريا بعد سقوط النظام، هي تزايد عدد الفصائل المسلحة التي تسيطر على مناطق واسعة. هذه الفصائل، رغم تنوع أهدافها وتوجهاتها، قد تواجه صعوبة في التوحد حول هدف مشترك لبناء دولة قوية ومستقرة. في غياب سلطة مركزية قوية، يبقى التهديد بتفشي الفوضى قائماً، ما يعقد من فرص التوصل إلى حلول سياسية مستدامة.

وهو ما يلفت إليه مرعي، والذي يشدد على أن «الأوضاع تزداد تعقيداً، نظراً لوجود حوالي 20 فصيلاً مسلحاً يحكمون البلاد الآن، ولكل منهم مصالحه وتوجهاته المختلفة.. ومن المحتمل أن تنشب خلافات بينهم، ما قد يؤدي إلى حرب أهلية جديدة، تمزق سوريا أكثر مما هي عليه الآن.. وبالتالي، فإن المستقبل مرهون بقدرة هذه الأطراف على تجاوز خلافاتها، والانفتاح على حوار وطني شامل». ويختتم مرعي حديثه بالتأكيد على أهمية العمل المشترك، للحفاظ على وحدة سوريا، وتجنب سيناريوهات الانهيار.

ميثاق وطني

في خضم هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى صياغة ميثاق وطني جديد، يجمع الفرقاء السوريين على رؤية موحدة لمستقبل البلاد. ووفق مراقبين، فإن نجاح هذا الميثاق سيعتمد بشكل كبير على تجاوز الخلافات الإيديولوجية بين الأطراف المختلفة، وبناء تفاهمات حول قضايا السيادة والتنمية السياسية والاقتصادية.

تفاؤل بالمستقبل

ورغم التحديات الكبيرة التي تواجه القيادة السورية في المرحلة المقبلة، إلا أن هناك فرصاً لتعزيز الاستقرار السياسي في البلاد، حيث يتعين على الحكومة الجديدة العمل على بناء مؤسسات الدولة من جديد، مع التركيز على إشراك جميع الأطياف السورية في عملية البناء. وذلك يشمل تعزيز دور الأكاديميين والخبراء العسكريين والاقتصاديين، لضمان استدامة الإصلاحات المستقبلية.

وخلافاً لتقديرات مرعي، يقول المفكر السوري، وزير الثقافة الأسبق، الدكتور رياض نعسان آغا، في تصريحات خاصة لـ «البيان»، إن ثمة مجموعة من التحديات التي تجابه الانتقال السياسي بالبلاد. ويقول: «الانتقال إلى الاستقرار يتطلب الحذر، ذلك أن الفوضى والانزلاق إليها يبقيان احتمالاً قائماً، لا سيما مع وجود عناصر كانت تدعم النظام السابق وتؤيده.. ومع ذلك، لدينا فرص واسعة لبناء سوريا الجديدة.. أنا على ثقة بأن القيادة الحالية تتسم بالنزاهة، والرغبة في التنوع والتمثيل العادل في الحكومة، بعيداً عن أي لون سياسي واحد».

ويشدد في هذا السياق على أهمية الاعتدال والواقعية، ذلك أن «الأيديولوجيات الصارمة ليست صالحة لقيادة حكومة تكنوقراطية ديمقراطية.. ويتطلع السوريون بعد 100 يوم إلى رؤية حكومة تمثل جميع شرائح الشعب السوري، وتستفيد من طاقات العسكريين والخبراء والأكاديميين، الذين يشكلون ثروة وطنية لا غنى عنها»، موضحاً أن «بناء سوريا الجديدة، لا يمكن أن يتحقق دون مشاركة كافة الأطياف والأقليات والطوائف بشكل فعّال».

وحول الحكومة الجديدة التي تتولى زمام الأمور في بلاده حالياً، يقول: «علينا أن نتحلى بالصبر، وألا نستعجل في تقديم الطلبات أو التقييمات للحكومة المؤقتة، التي لم يمضِ على تشكيلها سوى أسبوعين. لقد وعدت الحكومة بأنها ستنهي أعمالها بحلول أول مارس المقبل، ومن حقها أن تأخذ فرصة لا تقل عن 100 يوم، لترتيب البيت الداخلي».

وتكبدت سوريا فاتورة باهظة من الخسائر البشرية والمادية منذ بدء الحرب في 2011. فبحسب تقارير المرصد السوري، فإن عدد الضحايا بلغ قرابة الـ 620 ألفاً على مدار 13 عاماً. بينما على صعيد الخسائر الاقتصادية، تشير تقديرات مختلفة إلى أنها بلغت قرابة الـ 600 مليار دولار.

لا تقتصر الأزمة في سوريا على الجانب الأمني والاقتصادي، بل تمتد أيضاً إلى الجوانب الإنسانية. حيث يواجه أكثر من 13 مليون شخص في سوريا أوضاعاً مأساوية، بسبب النزوح الداخلي والخارجي. ومن ثم فإن إعادة توطين هؤلاء النازحين، تتطلب حلولاً عملية وفعالة، تشرف عليها الحكومة الجديدة، بالتنسيق مع المنظمات الإنسانية الدولية. كما سيكون من الضروري تهيئة بيئة مستقرة وآمنة، لعودة هؤلاء الأشخاص إلى مناطقهم الأصلية، وهو ما يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية وإعادة الإعمار.

وضع شديد التعقيد

خبير العلاقات الدولية، محمد رجائي بركات، يشير الى أن هناك العديد من العوامل التي تعرقل تحقيق هذا الهدف، أبرزها تضارب المصالح، بالإضافة إلى التدخلات الدولية والإقليمية .

على الصعيد الأمني، باتت التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش»، تفرض تهديدات مستمرة على استقرار المناطق، إضافة إلى ذلك، تتزايد التجاوزات الإسرائيلية التي تهدد أمن واستقرار البلاد.

يشير بركات في هذا السياق إلى احتلال إسرائيل لأجزاء كبيرة من الأراضي السورية، وخاصة هضبة الجولان وجبل الشيخ.

وعلى صعيد الموقف الأوروبي، هناك محاولات للتواصل مع النظام الجديد، إلا أن الاتحاد الأوروبي يضع شروطاً صارمة للتعاون معه ورفع العقوبات. من بين هذه الشروط، عدم السماح بوجود روسيا داخل الأراضي السورية، والاعتراف بإسرائيل، وإقامة علاقات إيجابية معها، بالإضافة إلى توحيد الفصائل المختلفة تحت جيش واحد، ومكافحة الإرهاب، وفق بركات.

ومع نهاية مرحلة الصراع الطويلة، تواجه سوريا تحديات هائلة على المستوى الداخلي، لا سيما في ظل انهيار البنية التحتية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية. حيث يعاني المواطن السوري من ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع الأساسية، مع تفاقم أزمة العملة المحلية. كما أن إعادة بناء الاقتصاد السوري، ستكون عملية معقدة، تتطلب إصلاحات جذرية في القطاعات الإنتاجية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، لمواجهة التحديات الاقتصادية.

علاوة على الحاجة إلى إنهاء العقوبات الأمريكية والغربية، وهي العملية التي وصفتها واشنطن وبروكسل، بأن الوقت لا يزال مبكراً عليها، في انتظار طريقة إدارة الحكم بالبلاد في المرحلة المقبلة، واتضاح الرؤية.

كما أن إعادة دمج سوريا في النظام المالي العالمي، من خلال رفع العقوبات سيسهل تدفق المساعدات الإنسانية، وتمويل مشاريع إعادة الإعمار، حيث تبلغ تكلفة إعادة إعمار البلاد 300 مليار دولار، بحسب تقرير «فيتش سوليوشنز».

وتستضيف العاصمة السورية دمشق، الأسبوع المقبل، مؤتمراً وطنياً للقوى السورية، بمشاركة 1200 شخص والذي سيشهد إعلان حل مجلس الشعب السوري، وجميع الفصائل المسلحة.

إحصاءات

12 يوماً من المعارك لسقوط نظام بشار الأسد

54 سنة من حكم نظام الأسد الذي حكم سوريا بقبضة حديدية

1200 شخصية تشارك في المؤتمر الوطني للقوى السورية نهاية الأسبوع المقبل

20 فصيلاً مسلحاً في سوريا يقدر عددها بنحو 80 ألف شخص

4 سنوات مرتقبة لتنظيم انتخابات في البلاد و3 سنوات لعملية كتابة الدستور

18 ألف سوري عادوا من الأردن بعد سقوط الأسد.

13 مليون شخص في سوريا يواجهون أوضاعاً مأساوية بسبب النزوح الداخلي والخارجي

300 مليار دولار تكلفة إعادة إعمار البلاد بحسب تقرير «فيتش سوليوشنز»

96 % من السوريين تحت خط الفقر مع ارتفاع التضخم إلى 140 %