في مخيم النزوح القريب من مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس المدمرة جنوب قطاع غزة، كانت الخيمة التي تضم عدداً من الصحافيين ملاذاً هشاً لمن جعلوا من أقلامهم سلاحاً، وكاميراتهم شاهدة على الحقيقة، فبينما كان الصحافيون يرسلون صور المجازر ويوثقون وجع الأمهات والثكالى، وينقلون صدى صرخات الأطفال للعالم، تحت أضواء خافتة وببطاريات تكاد تنفد، وبإمكانات بدائية، باغتهم صاروخ من دون سابق إنذار.

اشتعلت الخيمة كما لو أن الهواء نفسه كان وقوداً، وتحولت إلى كتلة من اللهب. سقط الصاروخ بمحاذاة كرسي الصحافي الثلاثيني أحمد منصور، مراسل إحدى الوكالات المحلية في غزة، وهو يوثق الألم، وينقل الحقيقة، في تلك اللحظات لم يكن في باله أن الصورة التي التقطها قبل دقائق ستكون الأخيرة، بعد أن اشتعلت الأرض من تحتهم، وتناثرت أحلامهم ودفاترهم وكاميراتهم.

صدمة وبحث

هرع الصحافيون مصدومين ينادون أسماء بعضهم، يبحثون عن وجوه مألوفة وسط ألسنة اللهب والدخان والركام، وجدوا زميلهم الصحافي حلمي الفقعاوي قد فارق الحياة على الفور، وأصيب عدد آخر إصابات بليغة، بينما كانت ألسنة اللهب تحاصر الصحافي أحمد منصور من كل الجهات، تلتهم جسده المصاب وعلى الهواء مباشرة أمام مرأى ومسمع العالم.

لم يكن هناك وقت للهروب، غرق المكان بالنار، وبسحب الدخان السوداء، وبصرخات الصحافيين العاجزة عن إنقاذ زميلهم، حتى اشتعل جسده واحترق حياً، قبل أن يكمل إرسال قصته، فصار هو القصة ومحور الخبر، والصورة التي غزت الشاشات، وبكى لها العالم.

أصعب مشهد

الصحافي عبدالرؤوف شعث تمكن وسط مخاطرة شديدة من الوصول إلى الجسد المشتعل، وسحبه خارج الخيمة، وأصيب بحروق في يده. يقول شعث لـ«البيان»: أصعب مشهد رأيته منذ اندلاع الحرب، لا أعلم كيف تحركت وكيف اخترقت النيران، ووصلت إلى جسد زميلي المشتعل، وتمكنت من سحبه خارج النيران، رائحة جسده المحترق ما زالت تحرق قلبي، كان في أنفاسه الأخيرة.

ويتابع: إن بعض الزملاء سارعوا لتصوير المشهد المروع بكاميرات جوالاتهم، ليس لأنهم أرادوا التصوير بدل إنقاذه، بل لأن حركتهم شلت أمام هول المشهد، وهذا ما استطاعوا فعله في لحظات الرعب. بعد ساعات من نقل أحمد إلى المشفى لتلقي العلاج، فارق الحياة. كان موته أقوى من كل الكلمات، وتحولت صورته إلى شهادة صامتة على مأساة غزة.