في قلب البلدة القديمة من نابلس، حيث الأزقة الضيقة تفضي إلى أبواب مفتوحة على التاريخ، وحيث تفوح رائحة الزعتر ممزوجة برنين النحاس ودفء الصابون البلدي، يعيش الحرفيون حكايات من الصبر والكفاح، وجوههم محفورة بتجاعيد الزمن، وأياديهم مشغولة بصنع الجمال، بينما قلوبهم مثقلة بما تفرضه الظروف من حصار اقتصادي وضغوط معيشية، جعلت من رزقهم حلماً بعيد المنال.
ففي أسواقها العتيقة، يعلو صوت المطارق، وتتردد أصداء الحرف اليدوية في محلات متوارثة من جيل إلى جيل، ومع كل صباح، يفتح الحرفيون أبوابهم بإصرار لا ينكسر، رغم تراجع المبيعات، وارتفاع أسعار المواد الأولية، وتضييقات الاحتلال.
صالح مسمار، حرفي في مهنة طرق النحاس منذ أكثر من 40 عاماً، يجلس خلف دكانه المتواضع، ينظر إلى القطع المتناثرة حوله وقد غطّاها الغبار، يقول لـ«البيان» بأسى: «كنا نبيع كل ما نصنع، اليوم نعمل ليبقى السوق نابضاً بالحياة فقط، لا لأجل الربح، الزبائن قلّوا، والمواد الخام ارتفع سعرها، والاحتلال يغلق المدينة متى شاء ويمنع السياح والمشترين من الوصول».
ويضيف أبو أحمد كلبونة، النجار العتيق في خان التجار، «خشب الزان والموسكي أصبح أغلى من الذهب، ولا أحد الآن يشتري قطعة أثاث مصنوعة يدوياً ، الجميع يتّجه للبضائع الرخيصة والمستوردة، رغم أنها لا تعيش لفترات طويلة».
أما الحدّاد أبو مراد العنتري، فيقول وهو يشير إلى ناره المتقدة وقطع حديد متراكمة: «نحن لا نحتاج فقط مواد أولية، نحن بحاجة للزمن القديم، عندما كانت الحرفة تُقدَّر، والناس تحترم تعب الكفوف، اليوم، نشتري الحديد بسعر عالٍ ونبيعه بخسارة، فقط لنُبقي باب المحل مفتوحاً».
الحرفي في مجال تنجيد الكنب أبو سامر العرندي، يتحدث وملامح الحزن مرسومة على تضاريس وجهه وقد التف حوله أولاده في مشغله الصغير، «إسفنج الكنب تضاعف سعره ثلاث مرات، والقماش غالٍ جداً، بعض الزبائن يأتون إلينا ثم يتراجعون، ويذهبون لشراء كنب مستوردة أرخص، وأسواق المدينة لم تعد تعج بالمتسوقين فالحواجز الإسرائيلية التي تحاصر المدينة من جميع الجهات تعيق وصول المتسوقين إلى المدينة».
الاحتلال والتضييق
لا تقتصر معاناة الحرفيين على الكساد والغلاء، بل تتعداها إلى المعوقات الأمنية التي تفرضها سلطات الاحتلال، الحواجز العسكرية، والإغلاقات المفاجئة، ومنع دخول بعض الخامات، كلها عوامل تشل الحركة التجارية وتُقيّد أي محاولة للتوسع أو التصدير.
ورغم كل شيء، يواصل الحرفيون نضالهم الصامت، يورّثون أبناءهم وبناتهم أسرار الحرفة، ويؤمنون أن ما بين أيديهم ليس مجرد مهنة، بل هوية وصمود وكرامة.
