لم تكن الجثث التي جرفتها قنوات الري في ولاية الجزيرة مجرد مشاهد عابرة في حرب مفتوحة، بل دلائل على ما يصفه تحقيق دولي بأنه حملة قتل ذات دوافع عرقية أعقبت دخول القوات المسلحة السودانية إلى الولاية.

كانت منظمات حقوقية أكدت في حينها "منتصف يناير 2025" إن الآلاف من سكان تجمعات سكنية تعرف بـ "الكنابي"، اضطروا للفرار بعد عمليات انتقامية وتصفيات ارتكبتها مجموعات مقاتلة مع الجيش بعد دخولها مدينة مدني عاصمة ولاية الجزيرة، وأشارت إلى ارتكاب عمليات تطهير عرقي، وقتل على أساس الهوية، والقاء لأشخاص في النهر أحياء، وإعدامات ميدانية على الطرق العامة، وجاء رد الجيش السوداني عبر بيان، وصف تلك الانتهاكات بـ "الفردية"

ووفقا للمنظمات الحقوقية، فإن سكان تلك المناطق وأغلبهم من العاملين في مشروع الجزيرة الزراعي يسمون بـ "سكان الكنابي"، واجهوا أوضاعا مأساوية بعد مقتل المئات حرقا ورميا بالرصاص وإحراق بيوتهم المبنية بمواد محلية بسيطة.

ووصف المرصد السوداني لحقوق الإنسان، ما يتعرض له سكان "الكنابي" بعد دخول الجيش والقوات المتحالفة معه إلى مدينة مدني، بأنها "عملية تطهير عرقي وانتهاكات جسيمة ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية"، بحسب تعبير البيان.

وفي ذات الشأن رصد ناشطون عشرات الانتهاكات، من بينها مقطع فيديو لمقاتلين يعدمون شخصا بطريقة وحشية في طريق عام، وسط تقارير أشارت إلى أن مجموعات تتبع للجيش، قامت بقتل عدد من الأطفال والنساء والرجال، في "كمبو 5" الذي يبعد نحو 6 كيلومترات عن مدينة "مدني".

وأظهر مقطع أيضا جنودا يقيدون شابا بالحبال ويلقون به على النيل الأزرق من أعلى جسر حنتوب الرابط بين شرق المدينة وغربها، مطلقين عليه بطريقة هستيرية وابلاً من الرصاص.

ووفقا لتقرير نشرته منظمة "أسليد" المتخصصة في رصد مواقع وبيانات الصراعات المسلحة، فقد ارتفعت معدلات العنف ضد المدنيين في ولاية الجزيرة بعد دخول قوات الجيش عاصمة الولاية.

الجيش السوداني من جهته اعتبر أن الهجمات التي وقعت في بعض مناطق الجزيرة "تجاوزات فردية"، وتعهد "بمحاسبة كل من يتورط في أي تجاوزات... طبقا للقانون".

تحقيق استقصائي دولي

التحقيق الاستقصائي المشترك الذي أجرته شبكة سي إن إن وغرفة الأخبار الاستقصائية Lighthouse Reports، بعنوان «جثث في القنوات»، استند إلى شهادات من داخل الأجهزة النظامية نفسها، وصور أقمار صناعية، ومصادر متعددة، أكد أن ما جرى كان منسقاً، وبأوامر صدرت من أعلى مستويات القيادة.

وفي تعليق على نتائج التحقيق، قالت كريستيان أمانبور، كبيرة المذيعين الدوليين في شبكة CNN ومقدمة برنامج الشؤون العالمية، إن التحقيق "كشف عن تفاصيل مروعة حول الفظائع المرتكبة في السودان، مُظهراً عمليات قتل ذات دوافع عرقية نُفذت على أيدي القوات المسلحة السودانية وحلفائها".

ويُعد تصريح أمانبور، وفق مراقبين، بمثابة تأكيد إعلامي رفيع المستوى على خطورة ما توصل إليه التحقيق، ويمنح الرواية بعداً دولياً يتجاوز الشهادات الميدانية.

إطلاق نار على الهوية

ونقل التحقيق عن ضابط في القوات المسلحة السودانية، طلب عدم الكشف عن هويته، قوله إن أي شخص "بدا أنه من النوبة -السكان الأصليين لجنوب السودان أو من غرب السودان أو من الجنوب-، كان يُطلق عليه النار على الفور"، في توصيف صريح لاستهداف قائم على الهوية.

وأكد قائد استخباراتي كبير أشرف على القوات على الأرض أن الجنود أطلقوا النار على مئات الأشخاص الذين خرجوا للاحتفال بوصول الجيش، مضيفاً أن الضحايا جرى توصيفهم داخل الوحدات العسكرية بأنهم "من جنوب السودان".

وبحسب شهادة ضابط في جهاز المخابرات العامة السوداني، فإن مقاتلين في منطقة بيكا قتلوا أشخاصاً اتهموهم بالتعاون مع قوات الدعم السريع، ثم ألقوا جثثهم في القنوات المائية، بينما أُلقي بعض الضحايا أحياء في المياه.

وفي موقع آخر، عند "كبري البوليس"، أفاد قائد في جهاز المخابرات بأن بعض الضحايا دُفنوا في قبر جماعي في مكان الحادث، إلى جانب جثث مقاتلين من قوات الدعم السريع.

الصور من موقع خطاب البرهان

وأظهرت صور الأقمار الصناعية التي التُقطت في شهر مايو 2025، وفقاً للتحقيق، عشرات الجثث الإضافية التي جرى التخلص منها في قناة مائية بمنطقة بيكا، على بعد أمتار قليلة فقط من الموقع الذي ألقى فيه قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، خطاباً أعلن فيه "النصر" واستعادة ولاية الجزيرة.