على الرغم أن كوريا الجنوبية تُعرف عالمياً بأنها من أكثر الدول تقدماً في مجال التكنولوجيا والابتكار الرقمي، فإن ملايين السياح والزوار يفاجَأون عند وصولهم إليها بأن تطبيق "خرائط غوغل"، الذي يعتمدون عليه في معظم أنحاء العالم، لا يعمل هناك بشكل كامل.

وبدلًا من الحصول على تعليمات دقيقة للتنقّل، يجدون أنفسهم مضطرين للاعتماد على تطبيقات محلية أقل شهرة مثل Kakao Map وNaver Map. فما السبب وراء هذا الاستثناء الغريب في بلد يُعتبر رمزًا للتقنيات الحديثة؟

السبب يعود إلى أن الحكومة الكورية ترفض منذ سنوات تزويد غوغل ببيانات الخرائط عالية الدقة (مقياس 1:5000)، بحجة أن هذه الخرائط قد تكشف مواقع عسكرية ومنشآت حساسة.

بدلاً من ذلك، يضطر إلى تحميل تطبيقات محلية مثل Kakao Map وNaver Map، التي لا تقدم نفس الدقة والتفاصيل التي اعتاد عليها في تطبيق غوغل. ويقول وينغ: "الأمر مرهق، لأنك تحتاج إلى ثلاثة تطبيقات للتنقل والوصول إلى وجهتك."

وعلى رغم أن كوريا الجنوبية تُعد وجهة متطورة تقنياً وتعمل فيها معظم خدمات غوغل الأخرى، مثل "يوتيوب"، فإن "خرائط غوغل" تظل ناقصة الوظائف الأساسية هناك.

وهذا يميزها عن دول أخرى مثل الصين وروسيا وكوبا، حيث يُعزى غياب الخدمة عادةً إلى التوترات مع الولايات المتحدة. أما كوريا، فهي حليف قديم لواشنطن وتستضيف قوات أمريكية على أراضيها، وفقا لـ شبكة سي إن إن.

أصل المشكلة

جذور الخلاف تعود إلى بيانات الخرائط التي تحتفظ بها الحكومة الكورية. فغوغل تقول إنها بحاجة إلى بيانات دقيقة لإنشاء نظام ملاحة متكامل في البلاد. لكنها على مدى نحو 20 عاماً لم تحصل على إذن لتصدير هذه البيانات، إذ ترفض السلطات الكورية الطلبات المتكررة بحجة "الأمن القومي".

ويرى خبراء أن القضية أكثر تعقيداً من مجرد مخاوف أمنية، إذ ترتبط بما يُعرف بـ"السيادة الرقمية" وبالتنافس على النفوذ في سوق التكنولوجيا.

من أين بدأ الخلاف؟

في عام 2008، أثارت غوغل غضب الكوريين عندما أدرجت بعض المواقع الكورية بأسمائها اليابانية، وهو موضوع حساس بسبب تاريخ الاحتلال الياباني للبلاد. ومنذ ذلك الحين، دخلت غوغل في سلسلة من الخلافات مع السلطات الكورية بشأن أسماء المواقع وحدودها على الخرائط.

وبحلول عام 2010، أصدرت كوريا خريطة بمقياس 1:25,000، وأتاحتها على الإنترنت. هذه هي الخريطة التي تعتمد عليها غوغل اليوم، والتي تظهر المدن والطرق والمعالم، لكنها لا توفر مسارات القيادة أو المشي. وعند محاولة الحصول على توجيهات عبر التطبيق، تظهر رسالة: "يبدو أننا لا نستطيع إيجاد طريق إلى هناك."

غوغل توضح أنها تحتاج إلى نسخة أكثر دقة بمقياس 1:5,000 أطلقتها الحكومة عام 2016. لكنها لا تستطيع الوصول إليها لأن القانون يمنع تصدير هذه البيانات خارج البلاد إلا بموافقة حكومية، وهي موافقة لم تحصل عليها حتى الآن.

كوريا الجنوبية تصر على أن منح غوغل هذه البيانات قد يكشف مواقع عسكرية ومرافق حساسة. لكن خبراء يشيرون إلى أن هذه المخاوف مبالغ فيها، خاصة وأن صور الأقمار الصناعية متاحة للبيع عالميًا.

غوغل نفسها عرضت تشويش المواقع الحساسة على "خرائط غوغل" و"غوغل إيرث"، لكنها لم تقنع السلطات بعد.

ويرى كثيرون أن القضية مرتبطة أيضًا بحماية التطبيقات المحلية مثل Kakao وNaver. إذ تخشى هذه الشركات أن تفقد حصتها في السوق إذا سُمح لغوغل بالدخول بقوة. وقد احتجت هذه الشركات علنًا، معتبرة أن منح غوغل حق الوصول سيكون "غير عادل" تجاهها، كونها تدفع الضرائب وتلتزم بالقوانين المحلية.

الأبعاد الاقتصادية والسياسية

بالنسبة للحكومة الكورية، لا يوجد مكسب اقتصادي كبير من تلبية طلب غوغل، ولا حتى ضغط شعبي يدفعها لذلك. أما بالنسبة لغوغل، فوجود خريطة دقيقة لكوريا يحمل قيمة استراتيجية كبرى.

ومن المتوقع أن تدرس لجنة حكومية تضم وزارات التجارة والدفاع والأمن والخارجية أحدث طلب لغوغل، لكن المراقبين يرجحون رفضه مجددًا ما لم تقدم الشركة تنازلات مهمة. ومع ذلك، قد توافق كوريا على الطلب في حال رأت فيه ورقة تفاوضية مع الولايات المتحدة في مجالات أخرى مثل التجارة.

يبقى ملايين السياح يواجهون تحدياً عند التنقل داخل كوريا الجنوبية، حيث تُجبرهم الظروف على استخدام تطبيقات محلية متعددة بدلًا من تطبيق عالمي واحد. وهكذا تظل "خرائط غوغل" مقيدة في بلد يعد من أكثر الدول تقدمًا في العالم، في قضية تتجاوز التقنية لتصل إلى عمق السياسة والاقتصاد والسيادة الوطنية.