لا يزال الحمض النووي (DNA) يثير دهشة العلماء وفضول الباحثين، إذ يُعدّ الأساس الذي يحمل الشيفرة الوراثية للحياة، فمنذ اكتشافه في القرن التاسع عشر، غيّر فهم العلماء لبنية الحياة وإرثها الجيني، وأسهم في تطوير مجالات الطب والأدلة الجنائية والبحث العلمي بشكل جذري.

رغم أن العالمين جيمس واتسون وفرانسيس كريك حصلا على جائزة نوبل لوضعهما نموذج البنية الحلزونية للحمض النووي، إلا أن الاكتشاف الأول يعود إلى الكيميائي السويسري فريدريش ميشر الذي تمكن عام 1869 من تحديد وجود مادة وراثية مميزة في الخلايا، لتبدأ رحلة طويلة من الأبحاث.

يتألف الحمض النووي من أربعة نيوكليوتيدات رئيسية: الأدينين (A)، السيتوسين (C)، الجوانين (G)، والثايمين (T). ويُعرف المجموع الكامل لهذه المعلومات في الكائن الحي بـ"الجينوم"، ويضم الجينوم البشري وحده نحو ثلاثة مليارات زوج قاعدي، وهي كمية من المعلومات تكفي لملء ما يقارب 201 ألف صفحة، ما يجعل الحمض النووي موسوعة حقيقية داخل كل خلية من خلايانا، وفقا لـ StarsInsider.

خارطة معقدة للحياة

يحمل كل إنسان ملامح وراثية مميزة، لكنه يتشارك نحو 99% من حمضه النووي مع بقية البشر، وترتفع النسبة إلى 99.5% بين الآباء والأبناء. أما التوائم المتطابقة، فيتطابق حمضهم النووي بنسبة 100%، ومع ذلك تبقى بصماتهم مختلفة، وهو ما يكشف دقة الحمض النووي لكنه يبرز أيضا محدودية استخدامه في التمييز بين أشخاص متطابقين وراثيا.

هذا التشابه لا يقتصر على البشر؛ فالإنسان يشترك في 50% من حمضه النووي مع الموز، وفي 40-50% مع الملفوف، بينما تصل نسبة التشابه مع الشمبانزي إلى نحو 98.5%.

تأثير البيئة والطفرات

البيئة تلعب دورا كبيرا في طريقة عمل الجينات، وإن لم تغيّر بنيتها. العوامل البيئية مثل أشعة الشمس، التدخين، والمواد الكيميائية، قد تؤدي إلى طفرات جينية تغيّر صفات الكائن الحي، وفي بعض الأحيان تكون سببا لأمراض خطيرة. ويُقدَّر أن كل خلية بشرية تتعرض إلى نحو مليون تلف في الحمض النووي يوميا، لكن الجسم يمتلك أنظمة دقيقة لإصلاح هذه الأضرار، وإلا تحولت بعض الخلايا إلى خلايا سرطانية أو تلفت تماما.

رحلة الحمض النووي عبر الفضاء

إذا تمكنّا من فرد جميع جزيئات الحمض النووي الموجودة في خلايا جسم إنسان واحد، لامتد طولها بما يكفي للذهاب إلى الشمس والعودة أكثر من 300 مرة، أو القيام بما يفوق 9,000 رحلة ذهابا وإيابا إلى القمر. هذه الأرقام تعكس حجم المعلومات الهائل المخزّن في أجسامنا رغم أن الحمض النووي غير مرئي للعين المجردة.

من الطب إلى القضاء

أحدث الحمض النووي ثورة في الطب الحديث، إذ بات بالإمكان التنبؤ بمخاطر الإصابة بأمراض وراثية مثل سرطان الثدي وأمراض القلب، كما أصبح أداة رئيسية في التحقيقات الجنائية. غير أن هذه الأداة ليست معصومة من الأخطاء؛ إذ قد يؤدي ما يعرف بـ"النقل الثانوي" إلى وجود حمض نووي لشخص بريء في مسرح الجريمة نتيجة مصافحة عابرة للمجرم. بل إن بعض القضايا، مثل سرقة المجوهرات في ألمانيا، ظلت بلا حل رغم وجود الحمض النووي، بعدما تبين أن الأدلة تعود إلى توأمين متطابقين لم يُعرف أيهما الجاني.

تطبيقات تتجاوز البشر

لم يعد الحمض النووي مقتصرا على الدراسات الطبية والجنائية، بل أصبح وسيلة للتحقق من أصالة الأطعمة الفاخرة مثل الكافيار. كما تُستخدم تحاليله في حماية الحياة البرية، عبر تحديد هوية الصيادين المتورطين في الصيد غير القانوني.

الأكثر إثارة هو نجاح علماء من جامعة هارفارد في تخزين 700 تيرابايت من البيانات في غرام واحد فقط من الحمض النووي، ما يفتح الباب أمام ثورة مستقبلية في أنظمة التخزين الرقمية.

الكيميرا البشرية

في بعض الحالات النادرة، قد يحمل شخص واحد مجموعتين مختلفتين من الحمض النووي، وهي حالة تعرف باسم الكيميرا، تحدث عادة عندما يمتص جنين توأمه داخل الرحم. هذا الاكتشاف يوضح مدى تنوع الحمض النووي وتعقيداته.

يظل الحمض النووي سجلّا حيا لتاريخنا البيولوجي، ومفتاحا لفهم الحياة بكل تعقيداتها. وبينما نواصل استكشاف أسراره، يكشف لنا كل بحث جديد عن مدى ذكاء التصميم البيولوجي الذي يجعل من كل خلية في أجسامنا مكتبة كاملة من المعلومات.