لنتخيل معاً، للحظة، أن تاريخ القط، رفيقنا الأليف الأكثر شعبية في منازلنا وعلى شبكة الإنترنت، قد خُطئ فيه لآلاف السنين! هذه الكرات الفروية المدللة، التي تقضي أيامها في الاستيلاء على الأرائك والمشاركة في أكثر المقاطع والصور الفكاهية المنتشرة، كانت قصتها الأصلية غامضة ومحفوفة بالغموض.
لكن اليوم، يمنحنا العلم أحدث أدواته ، وهي الحمض النووي القديم، ليزيح الستار عن الأسرار وكشف مفاجأة تاريخية: فالقطط التي نعتبرها أفراداً من العائلة لم تولد حيث كنا نظن!
كان علماء الآثار يعتقدون أن تعايش القطط مع البشر قد بدأ قبل حوالي 9,500 عام في منطقة الشرق الأدنى (الليفانت)، والتي تشمل شرق البحر الأبيض المتوسط وبالتحديد بلاد الشام، بالتزامن مع فجر العصر الحجري الحديث عندما بدأ الإنسان في زراعة المحاصيل.
كان هذا النموذج يفترض أن مخازن الحبوب جذبت القوارض، التي بدورها أغرت القطط البرية، ووجد البشر فائدة في إبقاء تلك الكائنات ماهرة في صيد الفئران بالقرب منهم، مما أدى في النهاية إلى تدجينها. أقدم بقايا قطط معروفة في السجل الأثري تعود إلى مقبرة في قبرص من تلك الفترة.
ومع ذلك، يشير تحليل جديد للمعلومات الجينية المستخلصة من بقايا هياكل عظمية للقطط في مواقع أثرية عبر أوروبا، والشرق الأوسط، وآسيا، إلى أن أصول القطط المنزلية المألوفة اليوم هي أكثر حداثة بكثير، وأنها لم تكن السنوريات الأولى التي عاشت جنباً إلى جنب مع البشر.
يقول غريغر لارسون، الأستاذ في كلية علم الآثار بجامعة أوكسفورد الإنجليزية، والذي شارك في تأليف ورقتين نتجتا عن البحث: "بدأنا في فحص العظام المنسوبة للقطط الأليفة التي يعود تاريخها إلى 10,000 عام، لنكتشف أي منها يحمل بالفعل نفس الجينوم الذي تهيمن به جمهرة القطط الحديثة الآن". ويضيف لارسون: "هذا يقوض تماماً تلك الرواية السابقة."
نقطة الانطلاق
أجرت دراسة ركزت على أوروبا ونُشرت في مجلة ساينس فحصاً لـ 87 جينوماً قديماً وحديثاً للقطط، ووجدت أن القط المنزلي، الذي يحمل الاسم العلمي "فيليس كاتوس"، نشأ في شمال أفريقيا، وليس في منطقة الشرق الأدنى كما كان يُعتقد سابقاً.
وكانت أسلافه ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقط البري الأفريقي، أو" فيليس ليبيكا ليبيكا".
وأشارت الدراسة إلى أن هذه القطط أسست مجموعة الجينات الخاصة بالقطط المنزلية الحديثة، ويبدو أنها انتشرت حول أوروبا مع صعود الإمبراطورية الرومانية قبل حوالي 2,000 عام.
وبحلول عام 730 ميلادي، كان القط المنزلي قد وصل إلى الصين، ومن المحتمل أنه قام برحلة مجانية عبر القوافل التجارية على طول طريق الحرير، وفقاً لدراسة ثانية نُشرت في مجلة" سيل جينوميكس"، حللت هذه الدراسة الحمض النووي من 22 عظمة لسنوريات تم التنقيب عنها في الصين على مدى الـ 5,000 عام الماضية.
قبل وصول القط المنزلي، اكتشف الباحثون أن نوعاً مختلفاً تماماً من السنوريات، لا يرتبط بالقط المنزلي أو سلفه، عاش إلى جانب البشر في الصين من ما لا يقل عن 5,400 عام وحتى عام 150 ميلادي.
هذا النوع، المعروف علمياً باسم قط النمر، تم تحديد بقاياه في التحليل الجديد، والتي كانت قد عُثر عليها سابقاً في سبعة مواقع أثرية في الصين، وهو فى الاصل قط بري صغير موطنه الأصلي آسيا .
ولكن بدءاً من الثمانينيات، قام المربون الحديثون بتهجين النوعين لإنتاج قط البنغال المعروف اليوم. وصفت شو-جين لو، المؤلفة الرئيسية للدراسة التي ركزت على الصين والباحثة في كلية علوم الحياة بجامعة بكين، علاقة قط النمر مع البشر تاريخياً بأنها "تساكنية" أي أن الطرفين استفادا من بعضهما البعض، لكنه لم يصبح مدجناً بالكامل رغم العيش إلى جانب الناس لأكثر من 3,500 عام.
فقد استفاد البشر من مهارات قط النمر في صيد الفئران، بينما حصلت القطط على إمدادات جاهزة من القوارض، لكن من المرجح أنه لم تكن هناك سيطرة متعمدة على جمهرة قط النمر.
لغز التدجين
أحد الفرضيات حول عدم تدجين قط النمر بالكامل تنبع من سمعته في افتراس الدجاج بالإضافة إلى القوارض، على عكس القطط المنزلية الأكثر كفاءة في اصطياد الفئران.
في الفولكلور الصيني، يُعرف قط النمر بـ "نمر صيد الدجاج"، في إشارة إلى شهيته للدواجن. وتشرح لو أن "صعود وتغير ممارسات تربية الدواجن بعد سلالة هان (عام 220 م) ،من أنظمة المراعي الحرة إلى أنظمة الأقفاص، على الأرجح فاقم الصراع بين البشر وقط النمر".
مضيفة أن "ميلهم القوي لاصطياد الدجاج، والإفراط في القتل في الأماكن المغلقة، جعل قط النمر غير مرحب به بشكل متزايد حول المستوطنات البشرية".
تزامن اختفاء قطط النمر من المستوطنات البشرية مع القرون المضطربة بين سقوط سلالة هان وصعود سلالة تانغ (عام 618 م)، حيث أدت فترة أكثر برودة وجفافاً إلى تعطيل موئل قط النمر.
وتؤكد لو أن هذا "لا يعني انقراض قطط النمر، بل إنها ببساطة تراجعت عن المستوطنات البشرية واستمرت في العيش في موائلها الطبيعية في الغابات."
الأدلة الجديدة التي تعيد أصول القط المنزلي إلى شمال أفريقيا ربما لا تكون مفاجئة، خاصة بالنظر إلى الدور المهم الذي لعبته القطط في أيقونية مصر القديمة.
ويشير الأستاذ جوناثان لوسوس، في تعليق نُشر مع دراسة فى مجلة " ساينس" ، إلى أن جدران المقابر المصرية تصور القطط كأفراد من العائلة يرتدون الأطواق والأقراط، ويأكلون من الأطباق، ويجلسون تحت الكراسي.
ومع ذلك، يكتب لوسوس أنه ليس من الواضح ما إذا كانت أرض القدماء المصريين هي المكان الذي حدثت فيه عملية التدجين بأكملها، أو ما إذا كانت مجرد "المحطة النهائية" حيث تحول صائدو الفئران إلى رفقاء منزليين أوفياء.
وتؤكد الدراسة التي ركزت على أوروبا أن القطط في المواقع الأثرية الأقدم من عام 200 قبل الميلاد كانت وراثياً تابعة للقطط البرية الأوروبية من نوع "فيليس سيلفستريس"، وليس القطط المنزلية، رغم صعوبة التمييز بين هياكلها العظمية.
ويشير لوسوس إلى أن العمل على فك رموز تاريخ القطط لا يزال مستمراً، لافتاً إلى أن نقص العينات الأثرية من شمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا يعني أن قصة أصل القط المنزلي بعيدة عن الاكتمال.
ويختتم قائلاً: "القطط، الغامضة دائماً مثل تمثال أبي الهول، لا تكشف عن أسرارها إلا على مضض، والمزيد من الحمض النووي القديم ضروري لكشف هذه الألغاز الغابرة."
