دبي – مرفت عبدالحميد

منذ طفولته كان البحر مدرسته الأولى، تعلم منه الصبر والتحمل، نشأ على صوت الموج، وصدى الأشرعة، الذي رافقه في كل مراحل حياته، حتى أصبح نوخذة يبحر بالسفن ويقود الرجال في رحلات الغوص والبحث عن اللؤلؤ.

وفي إحدى قاعات مدرسة الشروق الثانوية للبنين بمنطقة جميرا، جلس النوخذة الإماراتي صالح حنبلوه مؤسس متحف السنيار للتراث البحري، يروي للأجيال الجديدة قصص البحر كأنه يفتح صندوق أسراره العتيق، صوته الهادئ، الممزوج بملح السنين، أخذ الطلبة في رحلة زمنية إلى أيام الغوص والسفر الطويل عبر الأمواج، حين كان البحر هو الرزق والملاذ والمصير.

الرجولة والشجاعة

بدأ النوخذة حديثه بابتسامة وملامح وجهه تحمل صلابة البحر قائلاً: كنا نعتمد على البحر في كل شيء، فهو الذي يطعمنا، وهو الذي يختبر صبرنا، وفيه عرفنا معنى الرجولة والشجاعة.

حكاياته لم تكن مجرد سرد لتاريخ الغوص وصيد اللؤلؤ، بل كانت دروساً في الصبر، والإيمان، والقدرة على مواجهة المجهول، والعمل ضمن فريق واحد، والرضا بالقليل، هذه القيم صنعت رجالاً أقوياء قادرين على مواجهة التحديات.

ويصف كيف كان النوخذة يقود الرحلة، مسؤولاً عن أرواح الرجال على متن السفينة، وعن نجاح الرحلة أو فشلها، وسط ظروف قاسية لا ترحم.

ويستعيد حنبلوه ذكريات الدانات النادرة، والفرحة التي كانت تعم الطاقم حين يعثر الغواص على لؤلؤة ثمينة، تعوض شهور التعب والخطر الذي تعرضوا له خلال الرحلة، لكنه لم ينسَ أن يروي أيضاً عن لحظات الخوف حين كانت العواصف تهب فجأة، وتختبر عزيمة الجميع.

الترابط الأسري

في حديثه مع طلبة الثانوية العامة بمدرسة الشروق خلال الفعالية التي نظمتها إدارة الفعاليات المجتمعية والصحية، بجمعية النهضة النسائية بدبي، شدد النوخذة على قيمة الترابط الأسري الذي كان يميز المجتمع البحري، حيث يودع الأهل رجالهم بالدموع والدعاء، ويستقبلونهم بالفرحة والفخر.

ويقول حنبلوه: لم يكن البحر مصدراً للرزق فقط، بل كان مدرسة تعلمنا منها معاني الرجولة، والصبر، والاعتماد على المولى عز وجل في كل شيء، كما أن النوخذة لم يكن مجرد قائد للسفينة، بل كان الأب والملهم والقدوة للبحارة، مسؤوليته تبدأ من تجهيز السفينة وتحديد وجهتها، إلى الحفاظ على أرواح الرجال وحل مشكلاتهم في عرض البحر، كان النوخذة باختصار مدرسة متكاملة في القيادة والحكمة.

الهوية الوطنية

ووجه النوخذة رسالة مهمة للأجيال الجديدة، قال فيها: أنتم أبناء اليوم، لا تحتاجون أن تخوضوا البحر كما فعلنا، لكن عليكم أن تحملوا قيمه في قلوبكم ومن أهمها العمل بجد، والصبر على التحديات، والحفاظ على الهوية الوطنية.

وأضاف: صحيح أن مهنتي النوخذة والغوص قد انقرضتا، لكن قيمهما ما زالت حية، ناصحاً الشباب بالتمسك بالجذور والاعتزاز بتاريخ أجدادهم، لأن من لا يعرف ماضيه لا يستطيع بناء مستقبله.

وقال: نحن حماة الموروث، نروي قصص الغوص والسفر للأجيال الجديدة، ونسرد لهم كيف كان أجدادهم يواجهون البحر بشجاعة من أجل لقمة العيش، مشيراً إلى أن الهوية البحرية جزء أصيل من تاريخ الإمارات، والحفاظ عليها واجب وطني.

سر الحياة

خرج الطلبة من اللقاء وهم يحملون في عيونهم بريقاً خاصاً، كأنهم رأوا البحر بعين النوخذة، وسمعوا هدير أمواجه، وشموا رائحة سفن الغوص القديمة، لقد تحول اللقاء إلى رحلة زمنية، أعادت للحاضرين صورة الإمارات قبل النفط، حين كان اللؤلؤ هو الذهب الأبيض، والبحر هو سر الحياة.