فلسفة الحياة الأبدية بعد الموت كانت جزء من طقوس الحياة المجتمعية المصرية القديمة وامتلكت الأهرامات مكانة إنسانية وعاطفية للحياة بعد الموت ومنهجية للبعث والاتحاد بالآلهة بالنسبة للنخبة الحاكمة والنبلاء كون ان الأهرامات امتلكت صفة الدفن الحصري للعائلة الحاكمة والطبقة الارستقراطية، وجسّدت في شكلها الهندسي تأملاً فلسفياً لنظام كوني، تأسس على التوازن والتناغم بين الأرض والسماء، والمادة والروح.
بدأت إرهاصات فكرة تشييد الهرم عند المصري القديم من بناية حجرية أقدم عُرفت باسم "المصطبة" في الأسرة الأولى الحاكمة 3150-2890 قبل الميلاد، والتي كانت زواياها متسعة من أسفل، وتقل مع ارتفاع جوانبها.
استدعى الأمر من المهندسين خوض الكثير من التجارب المعمارية التي تكللت بالنجاح في عهد الملك "سنفرو -نب -ماعت" أول ملوك الأسرة الرابعة 2520-2470 قبل الميلاد، وذلك عندما نجح مهندسوه في الوصول بالمقبرة إلى الشكل الهرمي الكامل المعروف باسم الهرم الأحمر في منطقة دهشور، وما تبعه من أهرامات كاملة أكثر ضخامة أبرزها أهرامات الجيزة.
كان الهرم "طريق الأبدية" ووسيلة لصعود الملك إلى السماء، كما ذكرنا، لاسيما وأن المصريين كانوا يؤمنون بأن الموت ليس نهاية المطاف، بل بداية حياة أخرى ورحلة للروح إلى عالم الخلود، وقد اعتُبر الهرم "درجاً سماوياً"، كما يجسّده بوضوح الشكل المعماري للهرم المدرّج الذي بناه الملك جسر "زوسر" أول ملوك الأسرة الثالثة 2584-2565 قبل الميلاد، وهو بناء على شكل درجات سلّم "تصعد عليه روح الملك المتوفى إلى السماء للاتحاد بالإله رع"، إله الشمس، الذي يمثّل النور والبعث والحياة الأبدية.
تلك النظريات والأبحاث التاريخية التي توصل لها العديد من العلماء والباحثين على مدى أكثر من 5 عقود باتت اليوم تخضع للتقييم من جديد، وذلك بعد ان توصّل فريق من علماء الآثار الهولنديين والأميركيين إلى أدلة تشير إلى أن هذه مقابر الأهرامات المصرية القديمة لم تكن مخصصة للملوك والنبلاء فقط، بل شملت أيضًا أفرادًا من الطبقات الدنيا الذين كرّسوا حياتهم للعمل الشاق، وفقا دراسة حديثة نُشرت في مجلة علم الآثار الأنثروبولوجي
عُثر داخل بعض الهياكل الهرمية على هياكل عظمية تحمل علامات واضحة للإجهاد البدني، مثل تآكل مناطق ارتباط العضلات والأوتار بالعظام، وهي مؤشرات تدل على أن أصحابها مارسوا أعمالًا يدوية شاقة على مدى حياتهم.
هذه النتائج دفعت العلماء إلى الاعتقاد بأن المدفونين لم يكونوا جميعًا من علية القوم، بل شملوا عمّالًا وحرفيين خدموا المجتمع وربما ساهموا في تشييد هذه الصروح.
وقال فريق البحث في تقريره: "إن مقابر الأهرامات، والتي كان يُعتقد أنها مثوى خاص للنخبة، قد احتضنت أيضًا أشخاصًا من طبقات متواضعة، ممن مارسوا أعمالًا مضنية في خدمة الدولة والمجتمع." وأضافوا أن هذا الاكتشاف يتحدى إحدى أقدم الفرضيات الراسخة في علم المصريات.
من خلال تحليل العظام، توصّل الباحثون إلى وجود فوارق بين من عاشوا حياة يسودها النشاط البدني الشديد ومن عاشوا في ظروف أقل مشقة. المدهش في الأمر أن بعض هؤلاء الكادحين وُجدوا مدفونين جنبًا إلى جنب مع أشخاص من ذوي المناصب الرفيعة، ما يشير إلى أن المجتمع لم يكن مقسمًا بشكل صارم كما كان يُعتقد سابقًا.
ويؤكد الباحثون أنهم لا يزعمون أن العمال البسطاء كانوا وراء بناء الأهرامات بقدراتهم الذاتية، بل إن المشروع كان بتمويل ورعاية من شخصيات رفيعة المستوى مثل القادة والنبلاء.
غير أن وجود هؤلاء العاملين إلى جانبهم في المدافن يوحي بأن العلاقات الاجتماعية قد تكون اتسمت بدرجة من التوازن والاعتراف بجهود الطبقات الدنيا.
ويوضح التقرير أن الهياكل العظمية التي خضعت للدراسة وُجدت في منطقة كانت تُعرف قديمًا باسم "تومبوس"، ورغم أن العلماء لا يستطيعون الجزم بالسبب الذي دفع النبلاء لدفن العمال إلى جوارهم، إلا أن الاحتمال الأرجح هو أن طريقة الحياة في تلك المنطقة كانت أكثر انفتاحًا وتقديرًا لمختلف شرائح المجتمع مقارنة بما كان شائعًا في مناطق أخرى من مصر القديمة.
ويقول الباحثون: "إذا كان هؤلاء الأفراد من ذوي المكانة المتواضعة فعلًا، فإن ذلك يغيّر الرواية التقليدية التي حصرت المدافن الضخمة في النخبة فقط."
