تتراقص في أفق براغ القديمة ساعة" أورلوج، "تلك التحفة الفلكية العتيقة التي تتوشح عباءة من الأسرار واللوحات القوطية التصميم، وتحمل في طياتها تاريخًا يمتد لأكثر من600 عام، شاهدة على عصور من الحضارة والخيال، وعلى لعنةٍ قديمة تحوم حولها كظل من أساطير الزمن، يُقدر أن حوالي 3.5 مليون سائح يزورون الساعة كل عام، لمشاهدتها وهي تتراقص وتتحرك، وفقًا لإحصائيات وزارة السياحة التشيكية.
تلك الساعة العجيبة، التي تتخذ من مركز المدينة القديمة مسرحًا لعرض سحرها، ليست مجرد جهاز يعرض الوقت، بل هي لوحة فنية متحركة، تتراقص فيها أصابع الزمن، وتتناغم فيها رموز الفلك والدين، في مشهد يعكس عبقرية الإنسان في استحضار الزمن وصناعته.
كانت تُستخدم كعلامة لبدء الاحتفالات والمهرجانات، وتم تصميمها في الأصل لتكون أكثر من مجردرمز للمدينة او اعلان الوقت، فهي بمثابة مرصد فلكي متحرك، يعكس حركة الكواكب، والأبراج، والأجرام السماوية، بطريقة فنية دقيقة، استنادًا إلى نظريات فلكية حديثة.
ومن جانب اخر تُعد ساعة "أورلوج" من أقدم الساعات الفلكية في العالم، والتي لا تزال في خدمة العامة منذ إنشائها عام 1410، أي قبل 615 سنة، وتُصنف كثالث أقدم ساعة فلكية لا تزال تعمل حتى اليوم، بعد ساعة "ساكور" في إسبانيا، وساعة "أراخون" في فرنسا، ووفقًا للموسوعة العالمية للآثار.
هذه الساعة العملاقة وتُعد من أروع إنجازات الهندسة في العصور الوسطى، يبلغ قطرها حوالي 9 أقدام ونصف، تحتوي على أكثر من 300 قطعة ميكانيكية، وتُشغل بواسطة أكثر من 30 فردًا من الحرفيين والمهندسين على مر العصور، وتُعدّ من أروع روائع الهندسة الميكانيكية في التاريخ.
تحتوي الساعة على 4 أجزاء رئيسية، منها 4 تماثيل متحركة تمثل "الخطايا السبع المميتة": الموت، الطمع، الجشع، والتمرّد، والتي تظهر عند كل ساعة معلنة انتهاء دورة زمنية، وتُصدر أصواتًا مهيبة، كما أن تمثال الهيكل العظمي، وهو رمز الموت، يقرع جرسًا يرن في أرجاء المدينة، محذرًا من عبث الإنسان بزمنه.
أما عن صيغة الأرقام، فهي لا حصر لها، إذ تُظهر الساعة وقتًا وفقًا 4 أنماط زمنية: الزمن البابلي، الزمن البوهيمي القديم، وكذلك الزمن الألماني، والزمن النجمي، مع وجود علامات الأبراج التي تتتبع مسار الشمس والكواكب، وهو نظام فريد من نوعه في العالم، يستند إلى مخطط دقيق وضعه عالم الفلك جان شنديل في القرن الــ15، والذي استُلهم من الأسطرلابات القديمة.
ويُذكر أن الساعة تعرض أكثر من 2000 سنة من الزمن الفلكي بشكل دائم ودقيق، وتروى الأساطير أن الساعة كانت محاطة بلعنة غامضة، إذ يُقال إن صانعها، الذي أُعطي مهمة تصميمها بالكامل فقئت عيناه على يد 4 من سكان المدينة حتي لا يصنع نسخة أخرى منها ، حاول أن يوقفها عن العمل 4 مرات ، فمات غريبًا، أو أصابه الجنون، وأصبحت حكايا لعنة تلاحق من يعبث بزمنها.
وفقًا لأسطورة شهيرة، أن أحد الصانعين، بعد 4 سنوات الذي حاول أن يوقف الساعة، فمات أيضا في ظروف غامضة، و أصيبت الساعة بخراب مرعب عندما حاول أحدهم إصلاحها، مما دفع الحاكم في القرون الوسطى إلى أن يضع 4 حراس في كل مناوبة ليلاً، لمنع العبث بآلياتها.
وفي زمن الحرب، تحديدًا خلال الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية، تعرضت الساعة لأضرار بالغة، إذ أُطلقت عليها نيران القوات المعادية، وأُحرقت تماثيل الرسل، وتوقف الزمن لــــ4 سنوات كاملة، حتى قام المهندس فويتيخ سوتشاردا بعمليات إصلاح جريئة بعد تحرير المدينة عام 1945، واستعادتها إلى سابق عهدها، لتظل شاهدة على صمود المدينة وروح الإنسان التشيكي وفقا لموسوعة براغ التاريخية.
على مر القرون، أُضيفت إلى الساعة رموز جديدة، ففي عام 1865، أُدخلت 3 تماثيل جديدة، وأُضيفت أصوات الأجراس، وأُعيد تفعيلها بعد أن كانت مهجورة لسنوات.
وفي عام 2018، تم ترميمها بشكل كامل، حيث استبدلت الآلية القديمة، وأُعيدت إليها حيويتها، في عملية استغرقت 4 سنوات، وأُعيدت التماثيل إلى وضعها الأصلي، مع تحديث الآليات لتعمل بأحدث التقنيات، ولكن مع الحفاظ على أصالتها التاريخية وفقا لتقرير اليونسكو.
