العمل الأدبي صورة صادقة لمكنون النفس البشرية، يخط سطوره إنسان أثقلت قلبه المشاعر المختلطة، فترتسم على الصفحات ملامح تجربته الفريدة، وتغدو أسرار هواجسه كتاباً مفتوحاً، ينطق معبراً عن الصمت القابع في صدره، ويبوح بتجليات طالما غرقت في ظلمة الكتمان.

ولكن ماذا عن الإبداع إذا تحرّر من الروح الفردية، وبات مساحة تتسع لأقلام شتى، كل منها يضع لبنة في بنيان النص الأدبي، فتتشكل لوحة مكتظة بفسيفساء الأفكار المختلفة، تمتزج فيها ألوان متباينة من الرؤى، ليقف أمامها المتلقي عاجزاً عن نسبة كل رؤية إلى صاحبها.

وفي هذا السياق، استطلعت «البيان» آراء مبدعين في مدى إمكانية تحويل الإبداع الأدبي إلى عمل جماعي، وكيف ينجح كاتبان فأكثر في الاشتراك في عمل أدبي واحد.

عبدالله السبب

وتحدث الأديب عبدالله محمد السبب، عن دوره في ثلاث تجارب إبداعية مشتركة، أولها كان منذ أكثر من ثلاثة عقود، عندما أسهم، خلال شهر ديسمبر من عام 1989، في تأسيس جماعة أدبية.

مشيراً إلى أنها اشتملت على 5 شعراء من رأس الخيمة، وأطلقوا بيانها التأسيسي مذيلاً باسم الجماعة، ثم أخذ كل شاعر يعرّف عن نفسه بصفته أحد الأعضاء بقطع شعرية حداثية.

وقال السبب: في عام 1990، اشتركت مع الشاعر سعيد البدري في كتابة قصيدة نثر وحيدة بعنوان «ابتعاث آخر للمطر»، مذيلة باسمينا نحن الاثنين معاً، دون أن يدرك القارئ أين شخصية كل منا في القصيدة.

وفي العام نفسه، اشتركت مع الشاعر أحمد العسم في إنجاز مجموعة من القصائد المشتركة تحت عنوان عريض هو «ابتعاث المطر الآخر».

وأضاف: في عام 1998، أنجزنا كتاب شعر مشتركاً بعنوان «مشهد في رئتي»، يضم ثلاث مجموعات شعرية: «قبعة» لهاشم المعلم، و«ضجيج» لأحمد العسم، و«قميص» لعبدالله السبب، لكن الإهداء والافتتاحية جاءا على لسان الـ«نحن».

وأوضح أن التجارب الثلاث الإبداعية المشتركة خضعت جميعاً لما يسمى «ورش الكتابة الجماعية»، وهي ظاهرة ليست جديدة، وبقدر ما تتجدد بتلقائية في المشهد الإبداعي يأتلف أصحابها فكرياً ونفسياً وإبداعياً.

ورأى أن تكون الأعمال المشتركة، سواء على صعيد الكتاب المشترك أو النص الواحد، شعراً كان أم سرداً أم مسرحاً، منطوية على فكرة إبداعية ابتكارية جديدة، تشير إلى الشخصية الفردية لمبدعيها بوضوح، وتتضح من خلالها الرؤية الإبداعية الجماعية.

مريم الزرعوني

من جانبها، أكدت الكاتبة مريم الزرعوني أن الإبداع بطبيعته فعل فردي يرتبط بالذات وتجربتها ورؤيتها للعالم، لكن ذلك لا يعني استحالة العمل الجماعي.

مشيرة إلى أن التاريخ الأدبي يعرف نماذج لكتّاب اشتركوا في نصوص واحدة أو ثنائيات أدبية أنتجت أعمالاً لافتة، منها سلسلة روايات «الأدميرال العائم» التي شاركت فيها أجاثا كريستي إلى جانب مجموعة كتّاب قبل ما يناهز القرن.

وأوضحت أن نجاح التجربة يعتمد على مدى قدرة الكتاب على تجاوز حدود الذات والإنصات للآخر والتماهي مع الموضوع، بحيث يتحول النص إلى فضاء مشترك لا يغلب فيه صوت على آخر، لافتة إلى أن ظاهرة «ورش الكتابة الجماعية» تمثل تحولاً في مفهوم إنتاج النص، فهي تضع الكتابة في دائرة الحوار والتفاعل عوض العزلة.

وقالت: «ورش الكتابة الجماعية تمنح المبدع من جهة فرصة لاختبار أدواته مع آخرين، ومن جهة أخرى، تتيح مجالاً من اختلاف التجارب والأساليب، وأرى أن هذه الورش مفيدة لصقل المهارات وتهذيب السلوك في دائرة جماعية».

ملحمة جمعية

أسماء المطوَّع

الكاتبة أسماء صدّيق المطوّع، رئيسة ومؤسسة «صالون الملتقى الأدبي»، رأت أن الإبداع يولد عادة في عزلة الكاتب، لكنه لا ينغلق على صوته وحده؛ فحين تلتقي رؤيتان، يمكن للنص أن يتحول إلى حوار لا إلى صدى فردي.

موضحة أنه يكفي أن نتأمل في تراثنا العربي «ألف ليلة وليلة» التي صاغتها ألسنة شتى لتصبح ملحمة جمعية، أو المقامات التي انتقلت من الهمذاني إلى الحريري لتزداد ثراء.

وقالت: «على الساحة العالمية، نجد أمثلة عدة على نصوص ولدت من شراكة أثبتت أن التناغم بين الكتّاب ممكن ومثمر». ووصفت أسماء ظاهرة «ورش الكتابة الجماعية»، التي يتعاون فيها عدد من المبدعين على إنجاز عمل واحد، بأنها حدائق أدبية يتجاور فيها خيال بخيال، وتزهر فيها الأصوات المتعددة كألوان الربيع.

وأضافت: «قد يهدد التعدد وحدة النص إذا غاب الانسجام، لكن النماذج الناجحة تكشف أن الأصوات حين تتناغم تخلق موسيقى جديدة؛ فرواية Blackout التي جمعت ست كاتبات، وFourteen Days التي أشرفت عليها مارغريت آتوود بمشاركة عشرات الكتّاب، برهنت على أن النص المشترك قد يكتسب عمقاً إنسانياً لا يبلغه الصوت المنفرد».